سعدية مفرح: عدنان فرزات .. كاتب البسطاء

0

لا أقسى من الموت سوى أن يكون في الغربة قسراً، فيندف الجسد الغريب في الأرض الغريبة، بعد أن تذهب الروح إلى خالقها، وفيها شيء من الحنين إلى الوطن البعيد. أشعر بذلك كلما رحل أحدهم، وفي نفسه ذلك الشيء الحارق من الحنين إلى الوطن.

على كثرة أحاديثي شبه اليومية مع الزميل الكاتب الراحل عدنان فرزات، منذ سنوات، لم يكد يخلو حديث لنا من مفردة “سورية”، وطنه الذي فارقه أول مرة قبل ثلاثة عقود تقريبا ليستقر في الكويت، عاملا في صحافتها وفاعلا مؤثرا في مشهدها الثقافي، ومشاركا في عديد من فعالياتها الفنية والإعلامية. كانت سورية مفتاح السر لكل كتاباته ونصوصه، وكانت وجعه الأول والأهم تقريبا، خصوصا بعدما حرم من زياراته السنوية لها منذ اندلاع الثورة فيها، وانحيازه لكل الثورة بكل ما يملك من آراء وكلمات. 

ينتمي عدنان فرزات لذلك الجيل الذي تمزّقت أضلعه ما بين المفترقات السياسية العاصفة. وكان انحيازه للبسطاء في بلده وكل مكان خارجه الملمح الأول لشخصيته المنغمسة في الكتابة والرسم والإعلام. جرّب معظم فنون الكتابة تقريبا، وتنقل قلمه بين الشعر والقصة القصيرة والرواية والمقالة والنقد، وأنتج في كل تلك الفنون عناوين جميلة كثيرة.

في حديث أدلى به لإذاعة مونت كارلو الدولية، تحدّث عدنان فرزات عن حياته التي مرّت بمحطات كثيرة ما بين الوطن والغربة فقال “حملت المعاناة منذ طفولتي، بدأتُ حياتي بكفاح مرير وحياة بائسة من الفقر والجوع والتشرّد. المعاناة كوّنت لدي أحاسيس مرهفة تجاه الفقراء والبسطاء والمعذّبين في هذا الكون والمشرّدين والذين يعانون. ما أنا فيه اليوم نتيجة نجاحاتي الآن لم يُنسني حياتي السابقة، ولم أنس الناس البسطاء في رواياتي وكتاباتي. أنا لسانهم وقلمهم الذي يتحدّث عن معاناتهم وقلمي يكتب لهم”، ومن يقرأ روايات عدنان فرزات التي بدأ بها في مرحلة متأخرة نسبيا من حياته، يجد مصداق ذلك في الشخصيات التي ازدحمت بها تلك الروايات، وهي شخصيات واقعية عايشها الأديب بإحساسه المرهف، وعبر عنها بطريقته السهلة الممتنعة، والموشاة بروح يسري فيها النفسي الشعبي الأخاذ. 

عندما قرأت روايته الأولى “جمر النكايات”، أدركت أنني أمام روائي حقيقي، تأخر كثيرا في الإعلان عن نفسه. أخبرته بذلك، فردّ علي بخجل، كعادته، إنها مجرد بداية. سجلت إعجابي بتلك البداية في مقال كتبت فيه إن “جمر النكايات” رواية تتمحور في حكاية تقليدية في إطارها العام، لكنها تتجاوز حدود القص البسيط، لترسم حدود مدينة نهرية، ملتبسة التاريخ والجغرافيا في الوقت نفسه. وفي تلك المدينة الوادعة، يسكن بشرٌ خضعوا لذلك الإلتباس، وصاروا يمارسون حياتهم تحت ظلاله التي لا تزول في الليل، بل يتكثف سوادُها، فتنصبغ الأرواح بقتامةٍ لا أسباب منطقية لها، حتى وإن حاول الراوي تفسيرها لنفسه أولا، قبل أن يروج نتيجة محاولاته بين القرّاء.

يحمي فرزات، في تلك الرواية الموجزة، بنفسٍ هادئ وتشكيل بصري، قصة مدينةٍ وقصة امرأة، وفي نقاط كثيرة تتحد القصتان وتتداخلان، فيبدو الآخرون في أدوار ثانوية رسمهم الراوي، وهو بطل بقلمه كمؤلف للرواية أيضا، باعتبارهم مجرّد كائنات تكمل المشهد، من دون أن تكون لها القدرة على التدخل في رسم الأقدار النهائية. 

هنا امرأة تتحدّى مصيرها الموشوم على شوارع المدينة، وجدران بيوتها العتيقة بلافتةٍ مصنوعةٍ من قماش كيس طحين، مكتوب عليها أنها “مرشحتكم للإنتخابات”. لكنها تفوز بالموت أخيرا، في إشارة مفتوحة الدلالات على موت الحلم الذي رسمته المدينة كلها، وفقا لخطى امرأةٍ رفضت أن تشرب من نهر الجنون، حتى وإن إنكوت بل احترقت بجمر النكايات!. .. وها هو صاحب “جمر النكايات”، وقد رحل منكويا بذلك الجمر أيضاً.

*العربي الجديد

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here