يأخذك جوزيه ساراماغو، الروائي البرتغالي، في روايته المتميزة والاستثنائية «العمى» إلى حقيقة النفس البشرية، عندما تتعرى من لباس الحضارة، وتفقد كل القيم والأخلاق، وتتجرد من كل قانون، ومن كل سلطة عليا، سواء أكانت نابعة من داخل الإنسان نفسه، أم من خارجها (الأسرة، المجتمع) ببساطة، عندما تعود النفس البشرية إلى حالتها الطبيعية الأولى، عندئذٍ تهبط إلى مستوى أقرب إلى البهيمة أو أحط، الأسلوب الوحيد الذي تجيده هو حب الذات، واللغة التي تتقنها هي الصراع من أجل البقاء (عالم دارويني نيتشوي).
عالم اختلال المفاهيم والقيم
في عالم العمى تفقد الكلمات معناها الحقيقي، والقيم جدواها، ويفقد التفكير أيضا أهميته والزمن مفعوله، إذ يتساوى الحياة والموت، الحق والباطل، الخير والشر، الحاضر والمستقبل، الفقر والغنى، تقول زوجة الطبيب مخاطبة أصدقاءها العميان: «لقد انحدرنا حتى بلغنا الدرك الأسفل من الذل والهوان، كل ضروب الذل والهوان، حتى وصلنا إلى درجة الانحطاط التام»، ثم تستدرك بأنه إذا ما كنا نملك مبررا إلى الآن بأن سبب انحطاطنا هم الآخرون، أمّا الآن، فإن أيّ انحطاط مهما كانت درجته أو تفاهته، فسيكون بسببنا نحن، إذ تقول: «وحتى الآن لا تزال لدينا الحجة بأن الانحطاط حصل بسبب أشخاص آخرين، ليس الآن، نحن الآن متساوون جميعا في ما يتعلق بالخير والشر»، ولكي تبين أن عالم العمى هو عالم اختلال المفاهيم وانقلاب القيم؛ إذ من الصعب فيه أن تميز بين الخير والشر تقول: «من فضلكم، لا تسألوني ما هو الخير؟ وما هو الشر؟ لقد عرفنا ما هو هذا الشيء في كل مرّة؟ يتعين علينا أن نتصرف حين يكون العمى استثناء، إن الخير والشر هما ببساطة طريقتان من طرائق فهم علاقاتنا بالآخرين».
إذن، كل شيء يفقد مفهومه، ومعناه، وقيمته، حتى الأشياء الثمينة، التي كان الإنسان يُمني نفسه بتحقيقها في هذه الوجود، تفقد، مع مرور الوقت، قيمتها وتصبح بلا أهمية، لأن الإنسان في هذا العالم، بات همه الوحيد، ليس أن يعيش في رغد ورفاهية، بل أن يجد، على الأقل، لقمة تسد رمقه، كي تبقيه على قيد الحياة، وأن يجد سقفا يحميه، من حر الصيف أو قرّ الشتاء.
أبطال الرواية لا أسماء لهم، الأعمى الأول، زوجة الأعمى الأول، الطبيب، زوجة الطبيب، الفتاة ذات النظارة السوداء، اللص، والطفل الأحول، المكان الذي جَرَتْ فيه هذه الرواية مجهول، والزمن هو الآخر غير معلوم، قد يكون ساراماغو تعمّد ترك كل ذلك، لأنه أراد، في المحصلة، أن تنطبق الرواية على كل زمان ومكان، محذرا، في الوقت نفسه، من أن البشرية إذا استمرت في طريق الغي هذا، وبقيت تسير في دروب العبث هذه، سيكون العمى مصيرها، إن لم يكن هو هذا العصر. يبدأ العمى «بحر حليبي أبيض» بشكل مفاجئ وعشوائي، إذْ يصاب مواطن بالعمى بداخل سيارته، كما يصاب سارق سيارته الذي أوصله إلى البيت، ثم الطبيب الذي فحصه في عيادته.. وهكذا دواليك، ولأن العمى مُعْدٍ تنقلهم الحكومة إلى الحجر الصحي، للتفادي من الكارثة، غير أنّها، للأسف الشديد، لا تلتزم بتعهداتها والتزاماتها، تتركهم مثل رهائن يفترسهم العمى الأبيض، لا رعاية صحية، لا ماء صالح للشرب، حتّى الأكل يبدأ بالنفاد يوما بعد يوم، فضلا عن ذلك، وهذا هو الأهم، تفرض عليهم نظاما صارما جدا، جاء فيه حسب ذلك النداء الذي يذاع، من حين إلى آخر، على العميان: «إن الحكومة تعي جيدا مسؤولياتها، وتأمل أن جميع الأشخاص الذين تتوجه إليهم هذه الرسالة، وهم مواطنون صالحون بدون ريب، يفترضون أنها أيضا مسؤوليتهم، آخذين بنظر الاعتبار أن العزلة التي يجدون فيها أنفسهم الآن سوف تمثل، عدا الاعتبارات الشخصية، عملا من أعمال التضامن مع بقية سكان الأمة»، هذه هي لغة أيّ حكومة، لكي تتنصل عن مسؤوليتها، وتغطي عجزها وفشلها؛ فتشرع في العزف على وتر المشاعر الوطنية، حيث تستحضر في خطابها جملة من الكلمات المؤثرة التي تدغدغ العواطف من قبيل: المواطن الصالح، المسؤولية، التضامن والأمة.
على أنّ من بين الإرشادات التي يجب على العميان أن يتقيدوا بها، هي أن أيّ مخالفة لها أو أي خطأ منهم سيعرضهم، لا محالة، إلى القتل الفوري من طرف الجنود الحراس: «أولا: المصابيح سوف تبقى مشتعلة طوال الوقت، أي محاولة في العبث بمفاتيح الإضاءة ستكون عديمة النفع، إنها معطلة، ثانيا: إن مغادرة المبنى من دون تفويض سوف يعني الموت الفوري، ثالثا: سوف يكون المحجوزون مسؤولين عن غسل ملابسهم بأيديهم، رابعا: في حالة الموت، مهما كانت أسبابه، المحجوزون هم الذين يدفنون الجثمان في الردهة من دون رسميات». في عالم العمى يبقى حب السيطرة والتسيّد على الآخرين قائما، حيث تحاول عصابة من العميان، تمتلك أدوات القوة، مسدسا وعصيا، السيطرة على المجموعات الأخرى، تساومهم لكي يحصلوا على الطعام، أن يتنازلوا عن كل ثمين وغال، تبدأ بالاستيلاء على الأشياء الثمينة، كالساعات والأساور، التي بحوزتهم إلى أن تصل إلى اغتصاب النساء، وبما أن لكل فعل ردة فعل، تحاول زوجة الطبيب، الوحيدة التي لم تصب بالعمى، الانتقام منهم، حيث تقتل زعيمهم الملقب بـ«الرجل ذو السلاح»، ثم تكمل إحدى ضحايا الاغتصاب المهمة بإضرام النار في مأوى العصابة ليتم حرقهم جميعا، حينئذ يتحرر المضطهدون ليس من العصابة الشريرة فقط، بل من الحجر الصحي، بعد ذلك ينتشر الوباء في المدينة كلها، لينتقلوا من حجر صحي ضيق إلى حجر صحي أوسع.
لماذا ترك ساراماغو ناجيا واحدا من العمى؟
الناجي الوحيد من العمى، بالمناسبة، هو المرأة، زوجة الطبيب، تقول عن نفسها: «ماذا يعني حين تكون للمرء عينان في عالم يكون فيه الآخرون جميعا عميانا؟»، ثم تضيف بأن رؤية الرّعب ومعايشته، ليس كما تحسه ولا تراه «أنا ببساطة الإنسانة التي ولدت كي ترى هذا الرّعب، يمكنكم أن تحسّوا به، لكنني أحسّه وأراه معا»، من جهة، لكي تكون العيون لأولئك العميان، ومن جهة ثانية، حتى تقوم بنقل هذه المأساة المرعبة، فهي الوحيدة التي شاهدت معاناة النّاس مع العمى، تألمت وارتعبت، «أحست وشاهدت»، ومن جهة أخرى، هي بمثابة رمز إلى الرحمة في وسط قاس، رمز إلى العطف في عالم لا يعرف الشفقة، ورمز إلى أن هناك منقذا يسعى، بكل ما أوتي من قوة، إلى تخليص الناس من هذا الشقاء والمعاناة، لكن هذا المخلّص، على الرّغم من إرادته الفولاذية، وعلى الرّغم من قدرته على المقاومة، ونواياه الخالصة في تغيير الوضع إلى الأفضل، غير أنّه، بلا شك، إنسان، سيناله التعب يوما، لأنه، ببساطة، الوحيد في وسط الوباء المنتشر يقاوم؛ كذلك المرأة تُقدم في السرد الروائي بأنها وفية لزوجها الطبيب، ولأصدقائها العميان، إذْ التزمت بأنها لن تتركهم، مهما كانت الظروف، ولن تدخر جهدا، في سبيل رعايتهم، ما دامت تنعم بنعمة الرؤية.
الكنيسة والعمى
في المشهد الأخير من الرواية، تحاول المرأة مع زوجها الطبيب، الذهاب إلى الكنيسة، حيث تســــود السكينة والهدوء والعطف والحنان وروح الله، لعلــــها تظفــــر بالتريــــاق المطلوب والدواء المفقود في هذا العالم المرعب، تدخــــل إلى الكنيسة، وكلها خشوع ورهبة، لتتفاجأ، لسوء الحظ، بذلك الرجل المثبت بمسامير على صليب ذي ضمادة بيضاء تغطي عينيه، وبجـــــواره امرأة تغطي عينيها ضمادة بيضاء، كل الصور في الكنيسة تظهر عيونها مغطاة، هل العمى أصاب العالم بسب عمى الكنيسة؟ ربما، وهو احتمال كبير؛ بالتالي، فهو عتاب على الكنيسة، عتاب على القس، وعتاب على الإله، الذي تخلى عنهم، في لحظة من اللحظات، وتركهم فريسة لهذا العمى القاتل.
في الختام، يُبقي ساراماغو نهاية القصة مفتوحة على كل الاحتمالات، كأنه يريد القول بأن خلاص البشرية مؤجل إلى حين، بل قد يكون الأمل ضعيفا في نجاتها من الأوبئة، التي تعصف بها، من كل حدب وصوب، الأمر المؤكد في الأخير، بأن العميان بدأوا يستعيدون نظرهم الواحد تلو الآخر، مطلقين صيحات الغبطة والسرور:»يمكنني أن أرى»، هنا يدور حوار بين شخصيتين رئيسيتين يلخص المأساة بفوضويتها وتناقضاتها: «هل تريدني أن أخبرك بما يجول في ذهني؟»، «نعم، أخبرني»، «لا أعتقد أننا صرنا عميانا، أعتقد أننا عميان أصلا»، «نحن عميان لكننا نرى»، «عميان بوسعهم أن يروا، لكنهم لا يرون».
المصدر: القدس العربي