جان برينباوم*
ترجمة زويا بوستان
في أكتوبر من العام 1946 طلبت المجلة النيويوركية بوليتيكس نصاً من جورج وودكوك (1912-1995) وهو مفكر كندي أناركي (لا سلطوي)، وشاعر ومؤرخ وناقد أدبي، فماذا كان موضوع هذا النص؟ مقالة عن جورج أورويل (1903-1950) الذي كان في وقتها قد بلغ قليلاً من الشهرة. وبالرغم من أن رواية (1984) لم تكن قد نشرت بعد، إذ إنها رأت النور عام 1949، إلا أن رواية (مزرعة الحيوانات) (1945) كانت قد عرفت نجاحاً عالمياً. ومع ذلك يُعد هذا المقال من أوائل الكتابات المكرسة للحديث عن أعمال جورج أورويل عموماً، وهو يشير في أحيانٍ عدة إلى بعض التناقضات في فكر الأخير.
بعد ظهور المقالة بقليل، التقى وودكوك مصادفة بأورويل الاشتراكي مرتدياً معطفه من قماش التويد وبنطاله الواسع وهو يشتري المجلة من مكتبة لندنية.
الناقد الذي لطالما أحدثت مقالاته الجدل مع أكثر من كاتب، حول مواضيع كانت أقل قسوة، لم يعرف حينذاك أين يتوارى، وفي مساء ذات اليوم تلقى اتصالاً هاتفياً من أورويل يهنئه فيه على مقالته، وبالتأكيد عاتبه أورويل على فقرة لم يحبها آنذاك، ولكن هذا التأنيب بحسب وودكوك كان رقيقاً للغاية، وهو ما ذكره في سيرة ذاتية كتبها بعنوان “أورويل” ونشرت للمرة الأولى في كندا عام 1966 وترجمت إلى الفرنسية. هذه الشهادة هي مزيج ما بين التأملات الشخصية والملاحظات النظرية من أجل الإحاطة بالميزة التي جعلت من أورويل شخصاً جذاباً إلى يومنا هذا وهي الرقة المدهشة والتي من خلالها يرسي النزاهة السياسية معمدة بصدق وصراحة الناس العاديين.
أثناء الحرب، أي في عام 1942 تعرف وودكوك على أورويل الذي كان يعمل حينها في إذاعة BBC فأصبحا أصدقاءً يتشاركان بعض وجبات الطعام وتشتعل بينهما جدالات حادة، يقول وودكوك عن أورويل: كان خصماً نبيلاً، ولم يكن يتورع للحظة عن إفساح المجال للآخر في النقاش والذي كان يقوده مرات عديدة إلى التراجع عما يطرح على الملأ إذا اقتنع بأن هذه الطروحات لا تستند إلى مبررات كافية.
يرسم وودكوك في نصه أورويل كشخص غاضب وقاسٍ في بعض الأحيان، ولكنه في نفس الوقت محارب شديد الحماس من أجل الدفاع عن حق أعدائه السياسيين بالتعبير، إلى درجة أنه وفي ذروة إصابته بمرض السل كتب تحفته (1984) المكرسة ضد التسلط والشمولية.
العدو الراهن هو الشر المطلق دائماً، هذا ما نجده في الرواية، التي كان بطلها عاشقاً للكلمات، يحرمه النظام ليس فقط من أي وسيلة للكتابة، ولكن من كل وسائل الإحساس أيضاً.
في عالم “الأخ الكبير” ليس هناك متسع لحقيقة الأشياء ولا لصدقية المشاعر، وبالنسبة لأورويل الحرمان من إحداهن هو حرمان من الكل، وهذا ما يستطيع القارئ أن يتلمسه في الروايات والتقارير والمقالات التي اختارها فريق على رأسه فيليب جاورسكي لكي يصنع المختارات الساحرة من أعمال أورويل الصادرة هذه السنة عن دار غاليمار، والتي تضمنت أعمالاً من (متشرداً في باريس ولندن) إلى (1984) مروراً بروايته الأولى (أيام بورما)، والتي يدين فيها الاحتلال البريطاني، فأورويل يبني نقده للسلطة معتمداً على دقة الأفكار، وبشكل أكبر على دقة المشاعر، وبالنسبة للكاتب البريطاني فإن كلمة “اشتراكية” تعني كل شيء إلا الالتزام النظري، فهي حافز يومي يتغذى على روح عظيمة يسميها أورويل “النزاهة الأخلاقية”.
وفي هذا الإصدار نطالع أيضاً كتابات الطالب السابق في كلية أيتون الراقية وهو يحاول الغوص في عوالم المسحوقين “حيث ثمة كائنات أدمية تحاول أن تتصرف كبشر”، ونقرأ أيضاً منذ الصفحات الأولى تكريماً لكالتونيا.
أورويل يسرد هنا في هذا الكتاب التزامه إلى جانب الجمهوريين الإسبان، وتتأثر سرديته بالحس النقدي والسخرية اللذان يلغيان بدورهما كل مظاهر الجمود الفكري.
بالتأكيد، فإن الكاتب يعطي روايته للأحداث مظهراً كرهه للفرانكويين (مؤيدي فرانكو) وللستالينيين (مؤيدي ستالين) على حد سواء، كرهه لأكاذيبهم ولجرائمهم، ولكن هذا لا يمنعه من أن يختم نصه بدعوة إلى الشك: “عن وعي أو عن غير وعي يكتب كل منا وهو مناصر لطرف، وفي حال لم أكن قد صرحت بذلك في هذا الكتاب فإنني سأقولها هنا: لا تثقوا بحياديتي.”
وفي مقالة أخرى نُشرت بعد فترة بعنوان “عودة إلى الحرب الإسبانية” يروي أورويل مشهداً رمزياً يتناسب مع حساسيته، حيث بزغ أمامه في إحدى الصباحات من بين الخنادق الكتالونية رجلٌ يحاول الهروب ممسكاً بنطاله بيديه الاثنتين، يقول أورويل: “لم أطلق النار “فقد أتيت هنا لكي أطلق النار على “الفاشيين”” ولكن رجلاً يحاول أن يمنع بنطاله من السقوط ليس بالضرورة أن يكون فاشياً، فنحن وإن كنا في حربٍ مع أفكار رجل ما فهذا لا يمنحنا حق الاستخفاف بجسده، وأيضاً لا يعني أنه على خطأ إذا امتلك رؤية للعالم تستفزنا، وهنا نستمع إلى أورويل يسرد في سطوره البديعة سردية معارضته للفكر “القطيعي” الذي لاحظه عند الكثير من الرفاق: “فالحقيقة بحسب اعتقادهم تتغير إلى نقيضها عندما تخرج من فم الأعداء”.
هذه الكلمات موجهة لكل عسكريٍ يحتمي بالتفويض المجتمعي الممنوح له لكي يدافع عن بلده، وهي موجهة في نفس الوقت لكل كاتب يعي بأن الهذيان التوتاليتاري يقمع كل عامل في حقل الكتابة. “الشمولية تَعِدُ بزمن من الفصام، وليس بتاريخٍ من الإيمان، كما يحذر أورويل في عمله (الأدب الممنوع) من مجتمع شمولي لا يمكن له أن يعترف بحقيقة الأشياء، ولا بصدق المشاعر المنبثقة عن الإبداع الأدبي. وليس من الضرورة أن تعيش في بلد محكوم بالتوتاليتارية لكي تكون أحد المُفسدين بها.”
ولإدراك هذا لسنا بحاجة لأن نعيش في زمن أورويل، يضيف جان كلود ميشيا وهو كاتب لعدة مقالات مكرسة لمؤلف (مزرعة الحيوانات) والذي نشر حالياً عملاً بعنوان “أورويل، اليسار والفكر المزدوج”، مستشهداً بنصوصٍ عدة للكاتب نجدها أيضاً في كتاب مختارات دار غاليمار.
ميشيا يحاول أن يفهم لماذا كان أورويل وهو الاشتراكي حتى العظم دريئة لليسار الغربي، وعلى وجه الخصوص الماركسيين “الأرثوذكسيين”، يقول ميشيا: هنا سببان على الأقل لذلك، أولاً نجد في صفحات توضيحية خطها أورويل بأنه كان متحفزاً ضد خرافة “الحتمية التاريخية” التي شكلت ولزمن طويل أساس هذا الكون الأيديولوجي، ومن ثم يؤكد ميشيا فإن اليسار لم يخرج أبداً من زمن الفصام والذي كان بدوره يرعب أورويل.
وحيث اعتبر أورويل النزاهة الفكرية ضماناً لكل ثورة ذات مغزى، بقي اليساريون بمعظمهم أسرى الازدواجية الفكرية، والتي أدانها أورويل قائلاً: “ما يجعلني مريضاً من هؤلاء اليساريين وخاصة المفكرين منهم هو جهلهم المطلق بالطريقة التي تجري وفقها الأمور على أرض الواقع”، وفي المحصلة ونحن نقرأ ميشيا نجد أن معظم الحركات المنبثقة حالياً عن تشعبات اليسار ليست إلا تجسيداً ليبرالياً لهذا الفصام الذي سخر منه أورويل سابقاً، في هذا الصدد لا يمكننا إلا أن نعجب بالطريقة التي وصّف فيها ميشيا فعالية الكاتب البريطاني داخل الحركة العمالية والتي كانت من الحركات النادرة التي تضم بين صفوفها كتاباً ابتداءً من كارل ماركس وليس انتهاءً بهنري لوفيفر، بالمقابل قد لا تعجبنا الاتهامات المبالغ بها والبعيدة عن الأسلوب البسيط والمباشر المتبع من قبل أورويل، التي ساقها ميشيا ضد حركة مجتمعية ما أو بيان صادر عن اتحاد الطلاب الفرنسيين، أو أحد محرري صحيفة اللوموند لكونهم جهات ضالعة في مؤامرة الصمت التي تخدم قوى “الهيمنة”…
بيد أن، وتماشياً مع ذهنية المجابهة الناعمة لأورويل، فنحن نقر بأن ميشيا كان مخلصاً هنا لكاتب (1984) إذا أخذنا شهادة الأناركي (اللاسلطوي) جورج وودكوك حرفياً حيث يذكر ساخراً: “حتى في أفضل الظروف كان أورويل يُظهر بارانويا خفيفة تجاه الوسط الأدبي، والذي كان يشبّهه بعصبة من الفاسدين يقودهم “شعراءٌ مرهفون” وخريجون قدامى من كامبريدج لم يتوقفوا يوماً عن خدمة بعضهم البعض”
وجدياً نقول إن هذا الإخلاص يساهم في تمجيد عمل يوفق بين التمرد والوضوح، طارحاً مبدأً في غاية القيمة هذه الأيام هو: تعارض الآراء يجب ألا يواجه بالقمع.
كما يجب ألا نخفي الحقيقة تحت ذريعة أن تسمية الأشياء بمسمياتها تنطوي على خطورة أننا قد نستعدي شخصاً مهماً بعينه، أو قد نذعن لعقيدة مهلكة ما.
* صحفي فرنسي
عن اللوموند
خاص بالموقع