ترجمة : ياسين السويحة
ثمة أشكال ثلاثة لفهم البراءة. يرتبط أولها بممارسة التضحية على طريقة الشعوب القديمة. ففي الطقسين اليوناني واليهودي، يتوجب أن تكون ضحية التضحية، بشرية كانت أم حيوانية، مختارةً في نقائها وفضيلتها، ولم يكن مقبولاً أن تتلقى الآلهة أضحيات غير تامّة الأوصاف، أو غير كاملة. يقدّم سفر اللاويين، على سبيل المثال، سلسلة من الإرشادات والشروط التي يجب على الحيوان المخصص للتضحية أن يلبّيها، كالوزن والجمال والكمال الجسدي. وإن فكرنا بأسطورة إيفيجينيا، إبنة الملك أجامينون، التي ينبغي على والدها أن يضحي بها عند العودة من طروادة لتجنّب غضب الآلهة. اختيرت إيفيجينيا لأن مرتبتيها الاجتماعية والعاطفية العليتين تضافرتا مع براءة قصوى مرتبطة بعمرها وشرطها. ينطبق الأمر ذاته على إسحاق (إسماعيل بالنسبة للمسلمين)، والذي يشرع والده إبراهيم بالتضحية به تلبيةّ لأمرٍ إلهي: ابنه الأحب على قلبه، وفي الوقت ذاته أنقى ما يمتلك. وقد امتد هذا الربط الهُووي بين النقاء والتضحية إلى وهم المهزومين والمُهانين العنيد، الذين يستقون تفوّقهم الأخلاقي – أي وضعهم كشعوب أو أفراد «مُختارين» – من المعاناة الظالمة التي ارتُكبت بحقّهم. إن كانوا قد لاحقوني وقتلوني فذلك لأنني خيّر. وقد عمل هذا الشعور، ذو الأصل الأضحوي، كآلية دفاع جمعي في حالة بعض الأقليات المُلاحَقة: هذا ما حصل للتشيّع حتى الثورة الخمينية، ولليهود الأوروبيين حتى إنشاء إسرائيل. كما لا يزال هذا الشعور حيّاً في الطقوس الثورية، التي سعت لمواساة نفسها من هزائمها المتلاحقة باستخدام فكرة الهزيمة بحد ذاتها، بوصفها الدليل القاطع على الحقيقة العليا الكامنة في مطالب الثوريين.
نجد بقايا لهذا التأسل1 الأضحوي في عبارة شهيرة لسقراط، الفيلسوف اليوناني الذي أُعدم في أثينا عام 399 قبل الميلاد: «من الأفضل معاناة الظلم على اقترافه». ولكن عدا هيبة الألم والهزيمة، أو ضرورة الأخلاق المطلقة، ما يقترحه سقراط هو قطع تاريخي ثوري: نهاية «شريعة الغاب». وقد سخر منه عضوان في النخبة الحاكمة، بولو وكاليكلس، بالاستناد للطبيعة، التي تُميّز حسب رأيهم بين أُسود وغزلان، وتمنح أفضلية مشروعة للأقوى. لم يكن موقف سقراط دفاعاً عن الأضعف، بل مرافعةً عن قانون لا يسعى للإجابة عن سؤال «ما هو الأفضل لي أو لقبيلتي أو لطبقتي»، بل يهتم بسؤال آخر أهم، لأنه – مع أخذ كل التباساته بعين الاعتبار – يؤسس للقانون الحديث: «ما هو الأعدل للجميع؟». في التعبيرات القانونية، ليس «البريء» هو الأطيب أو الأنقى أو الأجمل، ولا هو الأكثر يونانيةً أو الأكثر ثراء؛ بل هو ذاك الذي – بمعزل عن سلوكه مع زوجه أو مع أصدقائه – ليس مذنباً في القضية المحددة التي تجري محاكمتها. لستُ مهذباً ولا كريماً، هذا صحيح، لكنني لم أسرق صلاحاً، ولا قتلت صوفيا.1. أي atavism بالإنكليزية: عودة ظهور سمات وملامح تشبه الأسلاف بعد أن كانت قد غابت لأجيال. يعود أصل المصطلح إلى علم الأحياء، لينتقل لاحقاً إلى حقول الفكر والثقافة (المترجم).
لكن وصف بريء يُستخدم أيضاً – وبشكل اشتقاقي في اللغة اللاتينية – كناية عن غير المؤذي. في عالم بتعقيد هذا الذي نعيش فيه، يصعب أن نجزم أننا نمضي في الحياة دون أن نمارس أي أذى. لو أحببنا بصدق فمن المحتمل أن نسبب ألماً وأن نتلقاه؛ ولو عشنا بشكل طبيعي في مجتمع رأسمالي، نلبس ونتحدث عبر الهاتف ونأكل، فإن لحركاتنا الأبسط، المندرجةً في شبكة تبادلات واستهلاك عالمية، تبعات على مجمل الحياة. إن أسوأ ما يمكن أن يُقال عن هذا العالم هو أن الناس، انطلاقاً من التصالح السينيكي مع سلطتهم الذاتية أو مع عجزهم، يصلون إلى مرحلة يزدرون فيها البراءة، وينعتون بالساذج ذلك الذي يسعى لإلحاق أقل قدر ممكن من الأذى، أو للتصرّف إيجاباً تجاه الوسط الأقرب إليه.
إذاً، من الملائم هنا قول كلمتين عن السذاجة. ثمة حكاية أحبّها يُدرجها التراث القروسطي في ذخر القديس أغسطين، المولود عام 359 في ما هو اليوم مدينة سوق أهراس الجزائرية. فحسب هذه الحكاية، رأى أغسطين يوماً طفلاً خلال تجوُّله على شاطئ البحر سارحاً في معضلات الثالوث العويصة، وكان هذا الطفل منكبّاً على غرف الماء من البحر باستخدام صَدَفة، ليسكبه بعدها في حفرة حفرها بنفسه على رمل الشاطئ. استمر الولد بالذهاب والإياب بحماس لا يخبو، إلى أن سأله أغسطين، وقد ثار فضوله، عن سبب همّته العقيمة، «أريد أن أفرّغ البحر»، أجاب الولد. بقية الحكاية معروفة، إذ قال القديس للولد أن مراده مستحيل، فأجاب الولد، وقد كان في الواقع ملاكاً: «مستحيل كحلّ اللغز الذي تعكف على التفكير به».
لننسَ للحظة أن الطفل في هذه الحكاية كان في الحقيقة ملاكاً، إذ من الممكن أن نتوقع طفلاً عادياً وهو يشرع ويكرر الشروع، بإصرار ودون كلل، بهذه المهمة اللامنتهية. سذاجة الطفل ليست في أنه يعتقد أنه سيكون قادراً على إفراغ البحر باستخدام دلو أو صَدَفة، بل في كامل الجدّية التي يشرع فيها بمهمة يعلم أنها مستحيلة. لكلمة «ساذج» أصل تأثيلي جميل في اللغة اللاتينية، إذ يرجع، بالتضاد مع العبد، إلى الإنسان الحرّ منذ ولادته، وبالتالي تُستدعي فكرتا «الأصل» و«البداية»، و إن شئنا مفهوم «البدء مرة أخرى»، أو «البدء من جديد» المتناقض. بمعنى أن «السذاجة» مرتبطة بتكرر الإتيان بحركة ما، تكون في كل مرّة منطلقة من الصفر وكأنها لم تُحرك قبلاً: حركة، إن شئنا، «متحررة» من ذاكرة الإنسانية التي نسميها تاريخاً. الشمس التي تشرق كل صباح هي ساذجة. الطفل الذي يملأ دلوه من ماء البحر مرّة تلو الأخرى ساذج. المرأة التي تغسل الثياب وتنشرها لتجفّ وسط أنقاض حرب هي ساذجة. ليست السذاجة اعتقاداً بالقدرة على حلّ مشاكل العالم، بل هي الاعتقاد، ببساطة، أن العالم ممكن. السذاجة، لنقل، تخلق العالم كلّ صباح: وسط أكثر التعقيدات عصياناً على الفكفكة، ونحن عالقون في أدغال عدوانية ليس بإمكاننا تغيير شرّها المتطرّف، تعتقد السذاجة أنه ما زال من الممكن ملء جرّة ماء، أو خياطة زر، أو إشعال النار مرة أخرى، أو تعليم الحساب لطفل، أو مداواة جرح. لذلك، من الممكن أن يكون المرء ساذجاً ومتشائماً في آنٍ معاً. فبإمكان المتفائل، وغالباً ما يكون رجلاً، أن يدمّر العالم بابتهاج؛ أما الساذج، وغالباً ما تكون امرأة، فإنها تواصل إسناد العالم بيديها، وكثيراً ما تتعب خلال ذلك ويتعكر مزاجها، دون بناء أي آمال حول الرجال الذين يقومون بتدميره.
هذا ما أود تسميته بـ«ابتذال الخير». نتذكر أن الفيلسوفة الألمانية حنّة آرنت قد انشغلت بابتذال الشرّ2 بخصوص أدولف إيخمان، الموظف النازي المُكلّف بنقل اليهود إلى المعسكرات: رجل مُخلص وكفؤ ونزيه ومُطيع، صار شريكاً في إبادة جماعية عن طريق ممارسة هذه الخصال البيرقراطية العادية. ابتذال الخير، وهو أكثر وجوداً، أقل ظهوراً بالمقابل وبالكاد يستجلب ثناءً. وقد شدّد عالم الحفريات الدارويني الأميركي ستيفن جاي غولد، المتوفى عام 2002، على أن الأنواع تُعرَّف في أوقات الاستقرار، وليس في أزمنة التحوّلات أو الطفرات، وأننا لو أصررنا على اعتبار الإنسانية نوعاً، فإنه من الضروري أن نتذكر أنها، في مسيرها الطويل، لا تُعرَّف بالعنف والقسوة والأنانية، كما قد تجعلنا الفتوحات الكبيرة والمجازر الضخمة نعتقد؛ بل تُعرّف بتلك الشبكة الكثيفة المُشكّلة من اللفتات الاعتيادية – من التبادل غير المصلحي للخدمات بين الجيران إلى الرعايات المتبادلة ضمن جماعة – التي تضمن رسوخ وحياة العالم المشترك وسط مصائب كبرى.
تكمن المشكلة في أننا، وإن استطعنا أن نعدّ ضحايا قصف أو طعنات سكّين، إلا أنه ليس بإمكاننا أن نقيس فوائد «ابتذال الخير». الملامسات المُحِبّة لا تترك بصمات، كما سبق وأن قلت، وبالتالي فبإمكاننا أن نتوقف عن ملامسة بعضنا دون أن نشعر بألم فوري. ولذلك بالذات فإننا سنكون تعساء للغاية في عالمٍ يختفي منه «ابتذال الخير» غير المُقاس هذا، دون أن نعرف بالضبط ما هذا الذي نفتقد إليه. أو بقول آخر: لو سُحب الجمال والتضامن والرعاية والتهذيب من حيواتنا فسنصير أشراراً دون أن نشعر بشيء، بقبولنا للشرّ كأداة مُطبَّع معها للبقاء على قيد الحياة.
ابتذال الخير الذي أسميته سذاجة، كتنويعة للبراءة، مهدّد اليوم. ليست مهدداً في مسارح الحروب والديكتاتوريات، كما هو الحال في سوريا فحسب، بل في كلّ مكان بشكل أو بآخر، نتيجة التآكل الرأسمالي للروابط الأنثروبولوجية، المُستبدلة بالتمركز الرقمي حول الذات، والقبول الذاتي بمستقبل بلا أفق. لنقل أننا نعيش عودة مفرطة التقننة إلى المجتمع البدائي، ما قبل السقراطي، الذي سادت فيه الأضحيات البشرية وشرائع الغاب على القانون والحق. وفي هذا السياق الحضاري، نجد أن عدوَّي البراءة والسذاجة، كما جرى في أزمات سابقة، هما الرياء والسينيكية. الرياء هو العَرَض الأول للانهيار، لكنه لا يعني انتقالاً حتمياً للسينيكية، بل قد يتصرّف كجدار احتواء أحياناً. يتحدّث الرياء «لغة مزدوجة»، بشكل – حسب القول المأثور الكلاسيكي – يمدح فيه الفضيلة علناً في حين يمارس في الظلام الرذيلة. ويبقى المجال العام محكوماً بـ«الفضيلة» طالما لا يتخلى الرياء عن ازدواجيته، وذلك يشمل القوانين ووسائل الإعلام والأحزاب السياسية. ومن الحقّ القول أنه حين تُفسَد المؤسسات باسم الديمقراطية، وتُحتلّ بلدان باسم السلام أو الإنسانية، وتُقصف مدن بحجّة حقوق الإنسان، فإن شيئين خطيرين يُقترفان هنا. أحدهما شديد الخطورة: قتل بشر، والثاني خطير للغاية: قتل كلمات ومبادئ وقيم.
بإمكاننا، على كل حال، أن نقول أن الرياء من خصائص المجتمعات المستقرّة، وأنها تكتسب كموناً خطيراً فقط في مطبات الأزمات الحضارية الكبرى، حين يتصالح الأقوياء والضعفاء في آنٍ معاً مع واقع أن لا شيء يمكن تغييره: كلاهما يستوعب قوّة الأول وعجز الثاني بوصفهما طبيعة. قبل عدّة أيام، خلال ندوة عن فلسطين، علّقتُ على هذا الانزياح المقلق. إذ حتى فترة قريبة كان من الممكن أن يُغضبنا رياء الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، اللذين لطالما لفظا كلمات كبرى وموّلا مشاريع صغرى، في حين كانا فعلاً، وبكل الأحوال، يدعمان إسرائيل في غزة وبشار الأسد في سوريا. وقد كان الرياء مرتبطاً بالهيمنة الشكلية لخطاب حقوق الإنسان، الذي لم يتخلّ عنه حتى أعتى المجرمين. لقد انتهى ذلك اليوم، إذ انتقلنا من الرياء إلى السينيكية: لقد انتهينا من «اللغة المزدوجة» ولكن ليس لمطابقة ممارساتنا مع قيمنا، بل على العكس، لملاءمة قيمنا مع ممارساتنا. السينيكية، كما يُرينا ماركيز دو ساد في أعماله المتحررة في القرن الثامن عشر، هي من خصائص الطبقات العليا المتخففة من أيّ كوابح ديمقراطية، والتي تدافع عن سلطتها وعنفها وإفلاتها من العواقب بوصفها «طبيعة». أي تدافع عنها بوصفها مُهلِكة ومستحيلة التجنّب. ويحصل السوء حين تنتشر السينيكية من الطبقات العليا باتجاه الطبقات الوسطى والشعبية، وهذا ما نعيشه في أوروبا مع صعود اليمين المتطرف، التي تغلب هيمنته الخطابية حتى ضمن اليسار في بعض الحالات: بخصوص المهاجرين واللاجئين والمسلمين «لا نمتلك ترف» حقوق الإنسان. يقولون لنا ألا نكون مُرائين، فللدفاع عن بيوتنا وعائلاتنا وأسلوب حياتنا لا نمتلك ترف أن نكون «خيّرين».
لا نمتلك ولا حتى ترف اللطف. عام 1956، قبل أن يموت بفترة وجيزة، كتب برتولت بريشت قصيدة بديعة بعنوان Vergnügungen، ما ترجمه البعض كـ«مُتَع» في حين ترجمه آخرون كـ«رضاءات»، وهذا الثاني هو العنوان الذي أفضّله. وفي هذه القصيدة، يقدّم الشاعر الألماني قائمة تكاد تكون شرقية من المُتَع الصغيرة (النظر من النافذة، السباحة، الوجوه المتحمسة، الكتاب القديم وقد وُجِد من جديد، الثلج، أحذية مريحة، الجدلية) وغير المفهومة على الإطلاق لغربي سائل، محلول ضمن سرعة الإنترنت. ومن ضمن هذه «الرضاءات» الصغرى والمحددة، ثمة اثنتان تكادان تكونان منقرضتين، كالديناصورات ووحيدات القرن البيض، غير متوافقتين مع نظام السوق الرأسمالي، ومن على تويتر تبدوان غرائبيتين بعض الشيء: «الفهم» (begreifen)، و«أن نكون لطفاء» (freundlich sein).
تتزايد صعوبة «الفهم» لأن العالم، موضوعياً، متزايد التعقيد. لكننا نسينا أنه لو كان التفكير مدعاةً للكسل، كالقفز في حوض من الماء البارد خلال الصيف مع أننا نعرف أن ذلك سيخفف من قيظنا، فإن متعة تسليط الضوء على العتمة لا تقاس بأي متعة أخرى، لا فيزيائية ولا تكنولوجية. إن حلّ مسألة رياضية، أو تملّك فكر أحد الفلاسفة إثر ساعات أو أيام من القراءة، أو فك تعقيدات سياسية شغلتنا وأقلقتنا، يمنحنا فرحاً نقياً وعميقاً كالحب، أشد من الجنس أو الأكل أو اللعب. أما بخصوص «أن نكون لطفاء» فهو بدوره متزايد الصعوبة في كوكب تعمل السينيكية فيه على تشويه سمعة اللطف بوصفه دليلاً على الانفصال عن الواقع، أو على الضعف. على أية حال، ما هو المشترك بين هذه «الرضاءات»؟ أن الفهم وأن نكون لطفاء هي ممارسات تقتضي الانتباه، والانتباه تحديداً هو أول ما يُفقَد في أوضاع الحروب، ولكن أيضاً في إطار مجتمع كوني لا يتيح التوقُّف والتحديق في الأشياء، لا في الحقل المهني ولا الإعلامي، ولا حتى في الترفيهي.
لا أعتقد أن بإمكاننا أن نقيس التوابع الحضارية لهذه الكارثة. إذ لا يمكن فصل متع الانتباه هذه – الأولى تتبع طريق الفكر، والأخرى طريق الشعور – عن الإقرار بوجود العالم. أو، ما يساوي ذلك، الإقرار بهشاشته القصوى. ما أفهمه حين أفهم شيئاً هو أن هذا العالم، الذي يكاد أن يتلاشى، يحتاج للإسناد بالفكر واليدين. الشيء ذاته ينطبق على اللطف: في كلّ مرّة أقول فيها «شكراً»، أو أتيح المرور أمامي، أو أتصرف بحنّية أو استيعاب، أو أوظّف دقيقة منتزَعة من زمن الهضم الفائق السرعة لأتوقف وأستفهم عن أحوال جاري، أتعرف فيها على هشاشة الآخرين، وأعلن بصوت عالٍ عن هشاشتي الذاتية. في تمرّغ الأزمة هذا، في مدريد وفي سيدني، في دمشق أو نيويورك، في لقاءات كبار رجال الأعمال أو حلقات الكوادر الحزبية، بات إعلان الهشاشة وكأنه دعوة للازدراء والاعتداء. في كبرى المدن الأوروبية، باتوا «لطفاء» فقط أولئك الذي الذين لديهم ما يخفونه، أو ما يخشونه: المهاجرون واللاجئون، الذين تضعهم لباقتهم نفسها موضع تلقي ضربات العصي والإساءات.
«الفهم» و«أن نكون لطفاء» ممارستان توأمتان، وتكادان تكونان متطابقتين، وهما فعلان مشحونان اليوم بقيمة تكاد تكون «ثورية». لا شيء يشبه إعلان الهزيمة كالاستغناء عن التفكير وعن اللطف. الاستغناء عن فهم العالم يعني الاستغناء عن اللطف مع الآخر، استبدال ابتذال الخير وتأثيراته العلاجية غير القابلة للقياس بابتذال الشرّ وقياسيته القاتلة الفعّالة. وعند هذه النقطة، وبعد أن وضعنا جانباً أو رفضنا الشكل الثالث للبراءة (التي تعني الالتزام بـ«عدم إيقاع الأذى»)، يظلّ الخلاص بيد السذّج البطوليين القِلة الذين، كالطفل-الملاك في قصة القديس أغسطين، يواظبون على تكرار نفس الحركات، المستحيلة والمُصلِحة، وسط الخراب
*الجمهورية نت