سامية عيسى: هاروكي موراكامي يروي غرائبيا وقائع التاريخ والعولمة

0

ثمة أثر للحرب العالمية الثانية لا يزال يلاحق كتاب الرواية في اليابان والعالم، وهاروكي موراكامي واحد منهم، فروايته الصادرة حديثاً عن دار الآداب التي ترجمها بمتانة عن الإنجليزية أحمد حسن المعيني “يوميات طائر الزنبرك” بأجزائها الثلاثة، تشي بكثير من النقد الإنساني والوجودي لتلك الحرب وللحياة البشرية في زمن العولمة. فالدور المرعب الذي قامت به الإمبراطورية اليابانية في هذه الحرب وما سبقه من فظاعات (حين احتلت الصين وبلدان أخرى كما الاتحاد السوفياتي زمن ستالين وغيرها من الإمبراطوريات) يمثلان الخلفية التاريخية شبه الموثقة بمراجع أوردها في نهاية العمل، محاولاً فهم  حال البشرية (كما الإنسان الفرد) في الضياع الذي تعيشه وفقدان التوازن النفسي والاجتماعي. التهديد الوجودي الذي استمر، وتفاقُم هذه الفظائع التي لم تتوقف حتى اللحظة من غير محاسبة، هما الثيمة التي تتجسد على مدار الأجزاء الثلاثة لرواية “يوميات طائر الزنبرك”.

 يستعير موراكامي أصوات شخصياته الروائية ليندد عبر شخصية العمل الرئيسة “تورو أوكادا” لكن على لسان شخصية أخرى (الملازم هوندا العراف) بالفظائع عبر استرجاع معركة “نومونهان” بين الجيش السوفياتي مع الجيش الياباني على الحدود بين منشوريا و منغوليا الخارجية. وكذلك محطات تاريخية عديدة في التاريخ  يفردها عبر الغوص في التفاصيل العسكرية لمعارك عدة تطفو فيها إلى سطح السرد الروائي، لحظات فريدة من التمزق الإنساني كما يعيشه المنخرطون في تلك المعارك. بل يظلون يعيشونه في ذاكرتهم التي تطل برأسها ما بين حين في حياة عديد من الشخصيات كما الملازم هوندا وصديقه الملازم ماميا. ولكن  ليس على شكل تساؤلات وجودية يتحتم طرحها، بل على شكل أزمات تعيشها الشخصيات بأبعاد مختلفة. و بينها “تورو” الشخصية “الراوية” و”المتكلمة” التي يجسد عبرها موراكامي العجز المطلق للإنسان الفرد في زمن العولمة.

جو بوليسي

ومع أن الرواية توحي بداية بأنها عمل بوليسي هدفه البحث عن قط “كوميكو” زوجة “تورو”، الذي أطلقا عليه اسم أخيها “نوبورو واتايا” تندراً “بمشية الأخ وتحديقته الفارغة”. لكن مع تقدم السرد يختفي القط ” كوميكو” في ظروف غامضة، ويبدأ “تورو” البحث في ملابسات اختفائه، بعد أن يبدأ بالتساؤل عن مدى معرفته بزوجته حقاً، “المرأة التي يشاطرها الفراش”، ليكتشف مع الوقت أنه لا يعرفها حقاً. ونكتشف بعد حين أنها هجرته، عبر رسالة اعترفت فيها أنها تحب رجلاً آخر، ويتبين أنها ضحية مكائد أخيها “نوبورو واتايا” وتحريضه، وهو الذي ما لبث أن أصيب بسكتة دماغية أفضت إلى وفاته على يد “كوميكو” التي سحبت القابس الذي يصله بالحياة حين تكتشف عمق الأذى الذي تسبب لها به ومزق زواجها.

تمازج السرد البوليسي بالواقعية السحرية (على خلفية ساخرة حيناً ووجودية أحياناً في بوتقة  فريدة يستمر على مدار الحبكة الغنية بتفاصيل معقدة بسيطة مشوقة وممتعة في آن. ويجعل من الصعب على القارئ التوقف عن القراءة إلا هنيهة هنا وهنيهة هناك، ربما للتأمل أو لالتقاط الأنفاس. وإن تسود الرواية مناخات تبدو أوروبية أو غربية في الغالب من خلال نمط العيش الذي يحياه “تورو” وزوجته “كوميكو” (طبخ السباغيتي/ البيتزا/ الأعمال المنزلية…) لكون “تورو” عاطلاً من العمل كي يكون مفيداً في تحمل الأعباء عن زوجته التي تضطر لعمل إضافي كي تغطي نفقات عيشهما… إلى غير ذلك من تفاصيل توحي بجغرافية لا تعكس نمط الحياة اليابانية وثقافتها التي كنا نراها لدى كتاب الرواية اليابانية الكلاسيكيين من أمثال يوكيو ميشيما ويوساناري كاواباتا. وإن يبدأ النص في مكان ما بجزئه الأول في إحالتنا إلى الجغرافيا اليابانية وتاريخها عبر وقائع الحرب العالمية الثانية التي انتهت بهزيمة اليابان وتوجت بإلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما، فهو يستمر في إيراد الجغرافيا اليابانية وتاريخها بربطها بزمن العولمة وعالمين متوازيين يعيش فيهما مفارقات الواقع والافتراض أو المخيلة الغرائبية.

طابع العولمة

يبدو موراكامي ميالاً لطبع أعماله بطابع العولمة من غير أن يعني ذلك الانقطاع عن أزمان ماضية أفضت إلى مآزقه. يفعل ذلك، ليس عبر تجسيد نمط عيش سائد في العالم ، بل من طريق الاستعانة بعناصر عدة كماركات الألبسة العالمية الشائعة حين يصف ملابس المراهقة “مايو كسهارا” التي تعرف إليها في الفناء داخل الزقاق القريب، وهو يبحث عن القط، “وهي تتقدم نحوه وترتدي قميص “الأديداس” الأزرق الفاتح الذي كانت ترتديه يوم تعرف إليها في المرة الأولى”… في الحقيقة لا نعرف سبب إقحامه هذه العناصر التي تتصف بالعولمة، وإن كنا نعتقد أنها ليست حشواً فارغاً، بل خلفية لتجسيد واقع عالمي من أزمات وتساؤلات وجودية تواجهها البشرية، كما لو كانت في طور الاحتضار أو الانشطار إلى، عالم واقعي يعيشه “تورو” مع شخوص واقعية على غرابة أطوارها، وعالم مواز سوريالي يدخل إليه من بئر جافة في البيت المهجور لينقلنا إلى متاهات غرائبية يفصح فيها عن رغباته الدفينة تجاه المفارقات الغريبة التي يتعرض لها.

وهو ما بين هذا وذاك، يعيش في عزلة الذات، غير قادر على التيقن من أي شيء وغارقاً في ضياع فردي وفاقداً القدرة على الانسجام مع نفسه أو ما يحيط به من ناس وأحداث. يخلق موراكامي دورين لشخصية “تورو”. فهو تارة يقوم بالسرد بصيغة المتكلم، وطوراً بدور الراوي الذي يخبرنا عن الشخصيات الروائية الأخرى ويسرد على ألسنتهم أحداثاً، بعضها واقعي والآخر غرائبي أو عصي على التخيل. كأننا إزاء محاكاة لما يعتمل في نفسه من تساؤلات تجعله غير قادر على فهم الآخر أو تفسير (بل ربما تبرير) ما يحدث حوله، في حالة من اللامبالاة القصوى أحياناً. أو هكذا يريد منا أن نعتقد. كما لو أن موراكامي يحاول أن يثير انتباهنا عبر هذا التردد في الفهم، أو الشعور بالعزلة، إلى المأزق الوجودي للبشرية التي ما تزال ترزح تحته في عمق زمن قديم يتنقل بين أمكنة مسرحُها العالم كله، أو الإنسان بصيغته المعولمة.

وفي معرض بحثه عن القط وتالياً عن زوجته، يبدو كمن يبحث عن حل لكل هذا المأزق الذي تورط به من غير أن يسعى إليه. كمن يبحث عن الشفاء في أغرب الأماكن أو عند أناس يصادفهم كما في حالة “جوزة الطيب” التي تملك مهارات الشفاء للنساء، بعد أن اعتزلت عملها كمصممة أزياء لامعة. وهي التي لم تتمكن من شفاء ابنها “قرفة” الذي فقد النطق في طفولته إثر حدث مروع ألم به. لكنها تساعد “تورو” مادياً ومعنوياً، وتجد له عملاً ومقراً كي تمنحه القليل من الانسجام، ليمضي في طريق البحث عن ذاته التائهة في مدارات عبثية لا تنتهي. يساعدها في ذلك” قرفة” الخبير في شؤون الكومبيوتر وربما (القاص) الذي يحاول استشفاف مخيلته من عبر إعادة بناء القصص بعناصر يستمدها من حكايات “تورو” وأمه وشخوص أخرى.

السرد البسيط 

كل ذلك يأتي في سياق سرد بسيط وسهل ممتنع، ممزوج بالواقعية السحرية الساخرة، يقحم فيه هاروكي موراكامي الإحالات التاريخية، وقصصاً قصيرة، كما التقرير الصحافي والخبر المتلفز وغرف الدردشة عبر الإنترنت، كتوليفة بارعة للحبكة السردية ال على التقليد. ويأتي عنوان الرواية “يوميات طائر الزنبرك” في الجزء الأول من العمل،  ربما ليكون البوصلة التقنية للعمل السردي كما للثيمة نفسها. فحين تسأل المراهقة “مايو” الشخصية الرئيسة “تورو” عن لقب يمكن أن يكون مؤثراً أكثر من، يختار أن يلقب بـ”طائر الزنبرك”. أما لماذا طائر الزنبرك، فيقول، “الطائر الذي يلف الزنبرك. كل صباح. على قمم الأشجار. يلف زنبرك العالم. هكذا، كرييييك”. هنا يلعب موراكامي على معيار الزمن الذي هو نفسه “أينما كان” أو ما يصطلح تسميته الزمكان في إحالة لزمن العولمة الذي نعيش فيه. فهو “الطائر الذي يأتيه كل يوم إلى بيته، ويصيح من على شجرة الجيران بصوت الزنبرك “كرييك. من غير أن يراه أحد قط”.

لا شك أن غرائبية النص الروائي في يوميات “طائر الزنبرك” تقترب من المناخات الكافكاوية، لا سيما الفانتازية منها، لكنها تتقاطع أيضاً مع الواقعية السحرية لأدب أميركا اللاتينية، لا سيما بتفاصيلها وتعقيداتها السردية الغنية. لكنها هاروكية بامتياز، إذ تتخلى عن كونها يابانية الطابع حصراً، وإن لم تخل من بصمات الأدب الياباني، فهو الروائي الذي وصفته “الغارديان” البريطانية بـ”أحد أهم رواد الأدب الروائي ما بعد الحداثة” .  

تجاوز موراكامي نفسه في هذه الثلاثية الطويلة (969 صفحة من القطع الوسط) عبر هذا البناء المحكم على الرغم من طول الرواية، وأتاح للقراء فرصة خوض تجربة فريدة تتخطى حدود المنطق في عالم فقد المنطق أصلاً وبوصلة اليقين. مع ذلك تنتهي الرواية بجزئها الثالث نهاية بوليسية ، كما بدأت، وكما استمرت على مدار الثلاثية، وإن لم تكن قط بوليسية بالمعنى التقليدي للرواية البوليسية. وكأن “تورو” يواجه نفسه بارتكابه جريمة قتل شقيق زوجته كرغبة دفينة في امتلاك جسدها عبر قتل شخص آخر في العالم الموازي كنوع من المحاكاة حين يعترف لنفسه بالقول، “لا بد من وجود رابط بين قتلي ذلك الشخص في العالم الآخر وسقوط نوبورو واتايا”.

تتركنا رواية “يوميات طائر الزنبرك” بأجزائها الثلاثة  في حالة ذهول. ليس في مواجهة تساؤلات زمن العولمة الأكثر إلحاحاً، وليس بالمأزق الوجودي الذي تواجهه البشرية الذي حاول هاروكي موراكامي أن يتسلل برميه في وجه قرائه، بل بالمتاهة التي يعيشها الإنسان الفرد وحيداً في عزلة الوجود.

*اندبندنت