أن تتحول مدينة بواسطة الأدب إلى شأن إنساني يخاطب البشر في كل مكان، وكأن حارات وأحياء تلك المدينة صورة مجسدة أمامك عبر الكلمات، فلا شك أن الكاتب قد عقد صلحا مع الإبداع الذي يرصد الحقيقة كما هي، لينقلها روائيا كما يجب للأدب أن يكون، لدرجة يشعر فيها المتلقي أن كل شيء فيها له صوت ورائحة. وهذا ربما ما سيلتقطه من يقرأ رواية «دلشاد» للكاتبة العمانية بشرى خلفان، التي لم تكتب فيها عن مسقط كمدينة من وجهة نظرها، بل كتبت العالم من وجهة نظر مسقط، إذ تذكرني الطريقة المميزة التي وصفت فيها مسقط بعبارة لجلال الدين الرومي يقول فيها: «إذن فأنتَ في الصورة العالَم الأصغر، وأنتَ في المعنى العالَم الأكبر».
إذ عبّرت بشرى خلفان أدبيا عن مسقط كشأن إنساني يرصد التحولات التي مرت بها في الحاضر والماضي، دون أن تخسر الرواية أدبيتها، ولغتها الرصينة التي تحرض على قراءتها في أقصر وقت ممكن، لتنتهي الرواية في الأخير بحسب ما قدر لها من عدد صفحات، لكن ستبقى طويلا في الذاكرة. إذ من الصعب أن تغادرك حكاية دلشاد، فهكذا روايات تشعر الواحد منا أن الأدب ليس محض قصص و نقل حكايات من الواقع، لكنه أكثر من ذلك، وكأن الكاتب لابد أن يترك شيئا من روحه، ومن بهارات الحياة لتستقيم الحقيقة الأدبية، تلك الحقيقة غير القابلة للتفاوض فيها، ذلك أنها الأصدق، لأننا أمام الأدب نرى الأشياء بصورتها الواضحة، فالواقع ينقل الواقع.
لكن هل الواقع صادق دائما؟ أعتقد أن الأدب أكثر صدقا منه، كون الروائي يلجأ إلى ترميم الواقع أدبيا، لذا صدق شكسبير حين قال لا حقيقة تاريخية سوى الحقيقة الأدبية، فالرواية بمقدار ما تمنحنا من متعة، فهي تساعدنا على الحلم، وعلى رؤيتنا أنفسنا ومحيطنا وأيضا تبث فينا روح التساؤل، والأكيد نقترب أكثر من القيم الإنسانية كالحب. تقول الرواية: «كنت أبتسم لمجرد أن تعنَّ في بالي، فعرفت أني أريدها كما لم أُرِد أحدا من النساء، كانت المرأة الوحيدة التي أردتها لي وحدي، أن تبقى فيَّ وأن أبقى فيها، أما بقية النساء فقد كنّ موانئ، أعبرهن مسافرا لا يقيم «.
«دلشاد» جاءت على سيرة الحب ليس بوصفه موضوعا خاصا تخوض فيه الرواية على حدة، وإنما وضعته، ضمن الأشياء التي يرتكز عليها أي عمل إبداعيّ حقيقي، ذلك أن الحب بكل أشكاله والحاجة الملحة له، يظل أحد أهم مباهج الحياة التي لا يقف في وجهها شيء. تقول: «عرفت حاجته إليها هي بالذات دون نساء مسقط، ودون نساء المرافئ التي يزورها، فهمت أن هذه الطفلة أخذت قلبه كله بتلك العينين الضارعتين إلى الحنان والعطف، وأنه وجد فيها كل الذي كان بحاجة إليه».
و»دلشاد» اسم مركب فارسي الأصل يعني «صاحب القلب الفرح»، ولهذا إذ وقفت بشرى خلفان على عتبة الحب مطولا، ذلك الشعور الذي عرفت كيف تصفه بكلمات غير مبتذلة، بل رفعت سقف التلقي عند القارئ، إذ يرتقي بنظرته له، بل وكأنها ابتدعت له في الرواية سرديته الخاصة لتقول إن الحب مرادف للوجود الإنساني وأنه من أسئلة الحياة الكبرى. يقول السارد: «لم أكن أستطيع الاقتراب منها ولا الابتعاد، صمتها الكثيف يتركني معلقا بحبل من الأماني واليأس، كيف أقترب منها؟ كيف سأوصل إليها هذا الحريق الهائل في قلبي؟ كيف سأخبرها أن عيني مذ وقعت على وجهها قبل خمس سنوات لم ترَ جمالا إلا فيه؟».
لبشرى خلفان طريقتها الخاصة في التعبير عن الأشياء، إذ تلمح ولا تصرح، ولا تصف الأشياء بعبارات مباشرة، بل تجمل الكلمات بطريقة تجعل القارئ يدرك تماما أنه أمام عمل أدبي وليس مجرد كلام عادي يمكن أن يسمعه على لسان أي كان، إذ تقول في فقرة من الرواية: «وعندما نكون معا داخل غرفتنا، والباب مغلق، وضوء السراج ينوس على الجدران، يركع عند قدمي يقبلهما فأصبح سيدته، ينام في حضني فأصبح أمه، يسند ظهري إلى صدره فيصبح جداري ومتكئي، يرفعني فأصبح طفلته، أستنشقه فيصبح هوائي.»
و»دلشاد» تحتفي بالكتاب والقراءة، ذلك أن القراءة هي أصل الكتابة وأصل المعرفة، ألم يقل الله عز وجل في محكم تنزيله: «اقرأ»، إذ توضح الرواية شغف القراءة الذي انتقل من الأب إلى البنت: «وأظنه يرى نفسه فيها، فقد أخبرني أنه وهو صغير كان يوفر مصروفه القليل ليشتري به الكتب، غير مبالٍ بالجوع الذي ينهشه حتى يعود إلى البيت، فيأكل مما يوضع أمامه، ثم يعتكف على كتبه غير منتبه لمرور الوقت، وكان يضطر إلى إخفاء الكتب عن عيني والديه اللذين يجدان في كل تلك القراطيس مضيعة للمال والوقت».
هناك عبارة في مديح القارئ، إذ تجسدت من خلال فريدة التي لقبها والدها بمحرقة الكتب العظيمة: «يقول أبي إن فريدة حاضرة البديهة سريعة الفهم، وإنها تضع كل قلبها في الدرس. وكان يراها محرقة كتب عظيمة، كلما أعطاها كتابا التهمته، فاضطر إلى فتح مكتبته أمامها، تأخذ منها ما تشاء، فتدرسه في البيت ثم تعيده.»
«دلشاد» ليست رواية عن مدينة مسقط كحارات وشوارع بل نافذة إلى الواقع، الذي يصبح فيه للجوع لغة، تقول الرواية: «فإني أعرف الجوع، وأتذكره جيدا، فمن عرف الجوع يعرف أنه يبقى في الدم، مثل مرض، ولا يمكن لأي شبع بعده أن يشفيك منه».
وفي النص عبارة تكاد تكون رواية في ذاتها، تقول: «تحمل كل جوع مسقط في عينيها»، كيف نرى الجوع، ثم نحمله معنا، كجوع مدينة بحالها، الجوع الذي يصبح شكلا من أشكال تلك المدينة.
بالنسبة إلى بشرى خلفان كل شيء يحمل صوته روائيا، حتى الضحكة التي تصبح حياة: «
كما أن لليتم أيضا صورته الخاصة في العمل، تقول: «كنتُ يتيما، ووحدهم اليتامى يعرِفون معنى العُري، وكيف يكون البرد في عظامك من لحظة الميلاد حتى الموت.»
وبطبيعة الحال تتحدث عن المرأة متجسدة في صورة الأم داخل المجتمع العماني، وكيف لها أن تواجه الحياة بكل ضراوة، إذ تقول الرواية: «أصبحت أمي لي أبا وأخا وأهلا ودنيا، ووعدتني بأنها ستعيد إليَّ كل شيء، لكن ماذا ستعيد إليَّ أمي؟ أتعيد إليَّ رفيف أجنحة الحمام على سطح بيتنا؟ أم انسكاب ضوء القمر على بحر مسقط؟ أم رائحة أبي وهو يضمني؟ أم صوته وهو يعلمني مخارج الحروف وطُرُق الحساب؟ أم حضوره في العالم؟ مجرد حضوره، الذي كان يغنيني عن كل شيء آخر
أمسكت بشرى خلفان بكل ما يتعلق بعمان، بدايات تعليم المرأة، ووجودها داخل المجتمع العماني، رمزية المكان الذي فيما يبدو كان البطل الرئيسي في دلشاد، إذ يعتبر الشاهد الأساس على كل ما مرت به المدينة من خيبات ومآسي، كما أنها بجمالية الأدب لا بما تقوله كتب التاريخ. تناولت صراع السلطان والإنجليز والكثير من الأمور التي سيقتفي أثرها القارئ دون أن تضيع منه الحكايات، على الرغم من أن هناك حشوا في بعض المواطن.
نقرأ في «دلشاد» تاريخ مسقط اقتصاديا، سياسيا، اجتماعيا عبر حكاية، تستقر عميقا داخلنا، بل وتلح على العودة إليها مرارا وتكرارا، ذلك أن السرد عند بشرى خلفان يحمل جمالية تمنح للقراءة تلك المتعة التي نرجوها أولا من الأعمال الأدبية، وفي الوقت ذاته نتعرف على تاريخ بلد كان محكوما بالجوع والفقر والألم، إذ اقتربت وقرّبت الكاتبة القارئ عن طريق شخوص عملها من الشعب العماني الذي واجه كل المآسي بابتسامة.
«دلشاد» رواية عن مدينة جعلت منها بشرى خلفان شأنا إنسانيا.
بشرى خلفان: «دلشاد ــ سيرة الجوع والشبع»
منشورات تكوين، الكويت 2021
500 صفحة.
*القدس العربي