“تجاهلي الضجيج، ركّزي جيدًا، ثم اضغطي على الزرّ كلّما سمعتِ صوتًا، أيّ صوت، مهما بدا خافتًأ”.
أُومِئ برأسي علامةَ الفهم. أسوّي جلستي وأبلعُ ريقي وأهمسُ باسم الربّ طلبًا للتوفيق كعادتي قبل أيّ اختبار، وهذه المرّة: اختبار سَمَع!
تضعُ الممرّضةُ نتيجةَ التخطيط على الطاولة أمامَ الطبيب الذي حَسَم التشخيص سريعًا: “فقدان سمع حسّي عصبي”. ثمّ راح يشرح بصوتٍ خفيض لا يراعي تناقص قدراتي: “أذنك اليمنى طبيعية، الإصابةُ في الأذن الداخلية اليسرى، في مركز السمع. لا تشيرُ تحاليلك إلى أيّ مشكلة مناعيّة. سنستكملُ الفحوصات، وإن لم نجد شيئًا سيُصَنّف على أنه مجهول السبب. ليس لدينا خيارات علاجية كثيرة. سنبدأ بأدوية لتحسين التروية الدموية في المنطقة مع جرعات من الكورتيزون لحماية العصب السمعيّ وإنقاذ ما تبقّى فيه من خلايا تُنازعُ التلف. لا أعدك بنتائج مضمونة؛ قد يعود السمع إلى مستواه الطبيعي وقد لا يعود”.
يغيبُ عنّي باقي كلام الطبيب ويختلط مع طنين أذني المصابة، وأغيبُ أنا في تساؤلاتي ومخاوفي: ما الذي يهرف به هذا الرجل! “لا يعود؟” “السمع؟”، “قد لا يعود السمع؟” يُسرع خيالي النشيط في رسم صورة لحياتي بلا سَمَع: كيف سأتّصل بـأمّي؟ كيف سأصغي إلى رسائل أخي الصوتية ونكاته على “الواتساب”؟ هل من طريقة لتخزين أصوات عائلتي في الذاكرة واستدعائها بحاسّة أخرى؟ هل من حلّ لتسكين الشوق إلى الأصدقاء، ونحن مبعثَرون في المغترَبَات، غير مهاتفتهم وسماع أصواتهم؟ هل سأُحرَم من السمع بعد أن حرمتني الحياة من اللقاء والعناق والقُبَل؟ ثم.. ثم الموسيقى؟ ماذا عن الموسيقى؟! أنا التي أسكنُ في الأغنيات، أعيشُ معها وأرقصُ لها لا عليها، وأتداوى بها. أنا التي ينخسفُ قلبُها كلّما قالت فيروز: “بلمح شبّاكه من بعيد عالوادي مفتوح، وتزيد الغصّة وتزيد بهالقلب المجروح”، وإن كنتُ أسمعها للمرة المليون!
أحاولُ التقاطَ الكلمات الآملة المتفائلة من حديث الطبيب. أضمّها إلى كيس أدويتي وأمضي بها إلى البيت.
أدوّنُ التعليمات وأُجَدوِلُ مواعيدَ الحبوب بدقّة عُصابيّة. لا تتأخّر الآثار الجانبية للكورتيزون بالإعلان عن وجودها المُرهِق: ارتباك، أرق، تبدّلات مزاجية وتوتّر. وكأنني لم أقضِ حياتي في صراعاتٍ معها ومع أشباهها!
يضيفُ الطبيبُ إلى الخطّة العلاجية دواءً مهدّئًا يخفّف الأعراض ويعينني على الاستمرار الضروري في تناول الكورتيزون. يلخُمُ الدواء الجديد رأسي ويفرّغه ويجعلُهُ كغيمةٍ خفيفةٍ في سَرْبٍ كبيرٍ من الغيوم. أتفقّد قلبي فلا أجده، صدري فارغٌ أيضًا. رغبةٌ سَمِجة في النوم ولا مبالاةٌ خرقاء لطالما استغربتُ أصحابَها وأشفقتُ عليهم. باختصار: لقد حوّلني الدواء المهدّئ إلى “هَبْلة”! لا انفعالات، لا مشاعر، لا قدرة على التعاطف مع أي شيء.
أنا لستُ أنا! حتى المجموعة القصصية التي أقرؤها قَسَمها العلاجُ إلى قسمين: جزءٌ أوّل بِلا Cipralex منحتْني قصصُهُ أجنحةً ومآقٍ لامعة وباقاتٍ من الضحكات والغصّات، وجزءٌ ثانٍ مع Cipralex بدا لي باهتًا وعاجزًا عن تحريكِ أيّ راكدٍ فيَّ، ومرّتْ قصصُهُ أمامي مرور العدم!
أستعجلُ الأيام. ينتهي العلاج الدوائي وسرعان ما تعود إليّ حساسيّتي وهشاشتي، هشاشتي المُنتقَدَة والمُتَّهمة بإفساد حياتي، هشاشتي الحلوة! فأستقبلها برضى وألعنُ البَأسَ والبؤساء وأقول لنفسي: أيّ طعم للحياة إن لم نبكِ أمام فيلم جيّد أو رواية جميلة!
ينقضي أسبوعان ويقتربُ موعدُ إعادةِ اختبار السمع. يخطرُ لي أن أجري فحصًا ذاتيًا لأجرّب وأستبقَ النتيجة. أتراجع وأخاف؛ خوّافة! وكعادتي في الخوف، ألجأ إلى الحبّ. يقترح حبيبي أن يهمس لي بكلمة في أذني المُصابة لأخمّنها. يدنو من وجهي حتى تُحاذي شفتاه خدّي الأيسر: “بحبّك”. أتراجع خطوةً إلى الوراء وأصيح: “مُتَوقَّعَة! عليك بكلمة أخرى”. فيدنو من جديد: “بكرهك” يعلو صوتَانا بالضحك ثم تنحسرُ ضحكتي سريعًا وأداري خاطِرًا يفزعني: ضحكاتُ الأحبّة!
ي الغرفة المعزولة في العيادة، تعيدُ الممرّضة تعليماتها الببغائية: “تجاهلي الضجيج، ركّزي جيدًا، ثم اضغطي على الزرّ كلّما….”
أُتِمّ اختبار الأذن اليمنى بيسر ونجاح. ننتقلُ إلى الأخرى. أتنحنح، أشدُّ ظهري، وأطردُ الهواجسَ من ذهني ما استطعت. أزجرُ الطنين والأصوات العجائبية في رأسي، وأربّتُ على روحي: “لابدّ أني تحسّنت، ولو بقدر ضئيل، سأنجح، سننجح”. بالكاد أسمعُ أوّلَ إشارتَين خافتتَين من كلّ طبقة اهتزازية. أمسكُ المِقبَضَ بعنف وأضغطُ على الزرّ بإصرارٍ كلّما التقطتُ صَفرَةً أو هَزيْزًا.
ولكن، أين الأصوات؟ لقد توقفتِ الأصوات. هل تسخر منّي هذي الممرضة؟ هل تُرسِلُ إشاراتها فعلًا أم تمتحن صبري وصلابتي؟ هل أنا في امتحان للسمع أم للوهَام؟ هل من المعقول أن الأصوات صادرة وموجودة وأنا عاجزة حقًا عن سماعها؟ ما الحقيقةُ إذن؟ ما الوجود إن لم نمتلك ما يعيننا على إدراكه؟ كيف نفهم كُنْهَ العالم وكيانَه إذا كان كلّ شي مرتبطٌ بحواسنا وقدراتنا المحدودة أصلًا؟
تتداعى إلى ذاكرتي مقاطع من قصّة الكاتب الفرنسي غي دوموباسّان Guy de Maupassant، ينشغلُ عقلي باستذكارها وترتخي يدي الممسكة بالمقبض، وتختفي كل الأصوات:
“أعضاؤنا هي الوسيط الوحيد بيننا وبين العالم الخارجي… لا تهبنا من ذاك الجزء الضئيل الذي بمقدورنا معرفته منه إلا معلومات ضئيلة وغير موثوقة. غير موثوقة، لأن وحدها خواصّ أعضائنا هي ما يحدّدُ بالنسبة لنا خواصّ المادّة الظاهرة. ضئيلة، لأن حواسنا ليست سوى خمس، وبالتالي فإن حقل تقصّيها وطبيعةَ كشوفها يكونان شديدي الانحسار.. وعليه، إذا ما كنّا نملك أعضاء أقلّ، فإننا سنجهل أشياءً عجيبة وفريدة، وإذا كنّا نملك أعضاء أكثر، سنكتشفُ حولَنا عددًا لا محدودًا من الأشياء التي كنّا نشكّ في وجودها بسبب نقص وسائل الملاحظة. نحن إذن نخطئ أثناء حكمنا على المعلوم، وفي الآن نفسه محاطون بمجهولٍ لم يستكشف. وإذن، لا شيء قطعيّ، وكلّ شيء نسبيّ يُقدّر بطرائق مختلفة…. كل شيءٍ خاطئ، كل شيء ممكن، كل شيء مريب”.[1]
تفتحُ الممرّضة باب الغرفة وتدعوني إلى مراجعة الطبيب. فأنهضُ غير مكترثة وأنا أردّد في رأسي ما قاله الكاتب الذي رحل شابًا في مصحّ للأمراض العقلية:
“كنتُ أعيشُ مثل كلّ الناس… أحسبُ أني أرى، أحسبُ أني أعرف، أحسبُ أني أدرك ما يحيطُ بي، إلى أن أيقنتُ ذات يوم أنّ كلّ شيء خطأ”[2].
[1] مقاطع من قصّة ” رسالة من رجل ممسوس” كتبها غي دوموباسان عام 1885 ووردتْ في مجموعة قصصية بعنوان “الهورلا” صادرة عن منشورات تكوين ودار الرافدين من ترجمة محمد آيت حنا. (طبعة أولى 2020، طبعة ثانية 2021)
[2] المصدر نفسه
*موقع أوان