تنطلق مقاربتي لسؤالِ الشعرِ اليوم من إيمانٍ راسخ بأن:
الشعر هو الجميل المدهش.
الشعر متوثبٌ دائماً نحو الحرية والمغامرةِ والكشف.
وكل فعلٍ إبداعي حقيقي هو فعلٌ تجريبي بالضرورة، يحتمل النجاح أو الفشل، وانعدام هذا السعي يفضي إلى اللا الشعر واللا إبداع، وبالتالي الارتهان لما هو معلّب واختبار مساحات توهم بالاتساع وهي أضيق من زنزانة.
سأضعُ ما تقدّم في سياقٍ اجتماعي وثقافي، لا بل سياسي واقتصادي، من خلال أوكسجين المجلة الإلكترونية أو المشغل الإبداعي، الذي أسستُه أولاً وأخيراً على مفهوم “الهامش” من منطلقٍ مفاده أن التنفس ملء الرئتين لأوكسجين الحرية متعذر تماماً في “المتن”، الذي يتسيده وما زال – لا بل أكثر من ذي قبل – كل ما يحفل به واقع رديء.
وللتوضيح: فإن المتن الثقافي العربي موبوء بكل ما هو سائد في الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وله أن يكون تارةً مداهناً ومتملقاً، وأخرى مطرباً وشعبوياً، وفي أحسن الأحول مناهضاً للتجريب وقد استكان للوصفات الجاهزة.
للإيغال أكثر بما أقصده بالهامش فإنني سأستعين ببيان أوكسجين الأول:
تتطلبُ القدرةُ على الحلمِ وبناء التطلّعات والامتثال للجسدِ والطفولة والبراءة، إلى جرعاتٍ كبيرة من المشيئة، وانحيازٍ للمساحات التي تتسع لأحلامنا وتطلعاتنا ورغباتنا وحواسنا وشهواتنا.
ليس هرباً، بل لجوءاً مؤقتاً إلى واقعٍ افتراضي، نفترض من أرضه الافتراضية على أملٍ أو شقاء أننا معاً سنمنحه واقعه ووقعه وصوته: ناشذاً، متسقاً، مضطرباً، متلعثماً، صارخاً، هامساً، هادراً، لكنه يؤسسُ ويتأسس، ويعاودُ من حيث تهدّم بأسسٍ جديدةٍ لنزوعٍ لا رادَّ له نحو الحرية، نحو الإبداع، نحو حرية الإبداع، وإبداع الحرية.
إنها هامشٌ بعد أن سحق المتْنُ كل الهوامش، واتسع وتضخم وتمادى بحيث لم يترك ذرّةَ أوكسجين واحدة لمن يتطلع إلى التنفس بحرية.
ليس لنا علاقةٌ بأحد، ولا نكنُّ بالولاء إلا للحياةِ والحريةِ والإبداع، ولا نعتمدُ في تمويلنا إلا على أنفسنا… إنها ومجدداً أرضٌ افتراضية نزرعها معاً وننتظر.
إنّ كل كلمة وردت في هذا البيان الصادر في 19 حزيران/يونيو 2005، ظلّت الحقيقة المهيمنة على كل ما نُشر في أوكسجين حتى تاريخه، وقد مارس كل من ساهم في هذه التجربة شتّى صنوف الكتابة.
كتبنا ما يُكتب وما لا يُكتب
كتبنا عن كل شيء بواقعيةٍ وخيال، بجنونٍ ورصانة.
عقبّنا وعلّقنا على ما يحصل وسيحصل.
وكنّا تارةً كمن يغني في الجنة، وأخرى في قلب الجحيم، على حافة الهاوية أو على شاطئ بحر لازوردي.
وهذا يدفعني للتأكيد أن إجابتي على سؤال الشعر اليوم بالقول إن مدى القصيدة المعاصرة ماثل بالهامش، وهذا الهامش واسعٌ ومترامٍ على امتداد العالم العربي: ففيه أقول:
ما أحتاجه
يومٌ واحدٌ برطوبة
أو
ستة أيامٍ لأنام
وفي السابع أخلُقُ كلَّ شيء
ما أخافه
ليس العبور
بل أن أصلَ فجأةً
فيُدّخر الوجه
ليومٍ أسود أو أبيض.
ما أنتظره
أن أختلق الهواء
أتنفسه
بسيطاً
سحرياً.
وفيه أيضاً كنت أخرج يومياً من أصابعي كالقلم
وأعود قبل الحبر بقليل
يعبرني الخشب بكلماته الطافية
كأني
صلة الوصل
بين الطاولة والكرسي.
وفيه يقول أحمد سواركة: بدأت أكتب مقاطع تشبه النقد الذاتي لإصلاح حياتي واكتشفت أنها قصائد، أي اكتشفت أن هذا شعر، فانتكست.
وفيه أيضاً لا تعلم سمر دياب ما إذا كانت قصائدها تحبُها. لأنها حسبما تقول “لا أتدخل في مشاعرها نحوي. قد تكون تكرهني لأني أفضحها هكذا على الملأ”.
ويرى ممدوح رزق الشعر “”توثيقاً للألعاب الذهنية والخيالات الاستكشافية المختلسة بعيداً عن سلطة الأسرة والمدرسة، وبناء حيز خاص مقفل ومنكمش، يشبه الحجرات السرية في البيوت القديمة.
تلك أمثلة وجيزة وسريعة لأسماء تعرفونها أو لا تعرفونها، من بين أسماء كثيرة آمنت بالهامش بالحجرات السرية
بأوكسجين
وهربت من متنٍ متحجرٍ ومصابٍ بشتى صنوف أمراض الواقع الذي يتنامى فيه النكوص، والقتل المتعمد للتجريب.
يختم إنسي الحاج في مقدمته لمجموعته الشعرية “لن” الصادرة عام 1960 بالقول: نحن في زمن السرطان: نثراً وشعراً وكل شيء. قصيدة النثر خليقةُ هذا الزمن، حليفته ومصيره”.
والآن في عام 2022، أتساءل أي قصيدة هي حليفة هذا الزمن وخليقته، وقد أَلحق بالمخيلة هزيمةً نكراء، وحجم الدمار يترامى ويتنامى في منطقتنا العربية، وما كنتُ أجده كارثياً أصبح لا شيء مقارنة بالكوارث التي نزلت من كل حدب وصوب، وقد تحول الوطن المتآكل بالاستبداد والفساد والرداءة إلى اللا وطن.
أعود إلى أوكسجين..
أعود إلى الهامش وهواجسه وتطلعاته التي تتطلب عناداً كبيراً منبعه شعري بامتياز، لا بل طوباوي، لكن على مبدأ أن ما كان يبدو “طوباوياً” في عصر ما ومتناقضاً تماماً مع قواعد سير المجتمع، وبالتالي “مستحيل الإنجاز”؛ يصبح ممكناً في عصر لاحق.
———-
*هذا النص هو محور مشاركة زياد عبدالله في ندوة “سؤال الشعر اليوم: مدى القصيدة المعاصرة واتساع الجغرافيا” التي أقيمت ضمن فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب في 5 أكتوبر/تشرين الأول 2022.
*موقع اوكسجين