إنها صورته. صورة حروفه، وذاك القلب الذهبي!
كل مساء، يمعن النظر فيها، منذ ذلك اليوم الذي أرسلها له صديقه، شريك ملاعبه، في ذلك الجزء الأكثر إشراقًا من قلبه.
لا يترك الصورة إلا ليعود إليها، يهرب منها إليها. في خفايا نفسه براكين، لم تدفئ حممها برودة أوصاله، أنفاسه، وحتى غرفته.
بأبجدية من المنفى يقرأ ذكريات الوطن في تلك الصورة، حكايات دافئة ذات شتاء، ملاعب من الفرح، أناشيد من الضحكات المشرقة، عالم آخر لم يعد يشبهه، كم كان دافئًا..!!
ذكريات الصورة لا تبارح ذاكرته اللامنسية، لا يزال ذلك القلب يعج بالحروف، على كتفها يتزاحم الحبر الشارد، وتتداخل أقواس من القزح، لا تزال محتفظة بألوانها.
تلك الذكريات، أتعبها الاغتراب، بل التشرد، أحيانًا لاجئ بلا وطن، وأحيانًا كثيرة في الوطن بهيئة لاجئ. في ذلك الحي المترامي في الشروق، لمدينة الحب قامشلو “قامشلي”، في تلك البقعة المعطّرة بالحب، كما القلب، تتوسط كل عناصر الجمال، فكانت الأجمل.
لا تخلو صباحاتها من نسمات محملة بالندى، تعبر الحدود بلا جواز سفر.
البيوت المتلاصقة أو القريبة، تدفئ القلوب في باقيات الأيام، الأشجار الخضراء في حوش بيوتهم، تتنفس عبقًا دائم الخضرة لفصولهم الباردة.
الشوارع الضيقة، تلك التي تفصل بين البيوت، تقربها جلسات النساء اليومية وحكايات لا نهاية لها.
في الجهة الشمالية من الحي وبعيدًا بعض الشيء عن البيوت، حيث المساحات الخضراء من البراري، كان هناك جدار لم يكتمل بناؤه، تركه صاحبه هناك وحيدًا ورحل.
كان ارتفاعه يزيد عن مترين وطوله عن ستة أمتار. لربما كان الجدار سورًا لمزرعة لم توضح ملامحها، لا شيء سوى ذلك الجدار الذي يخفي في مخططه حكايات لم تحك.
لا أعلم لماذا في ذلك الوقت لم يقدني فضولي لمعرفة قصة الجدار!!!!
لِمَ لمْ أسأل أبي عن الجدار؟
لكنه كان مصدر فرحتنا وسجلًا ذهبيًا لأحلامنا، وذكرياتنا فيما بعد.
وهذا ما كان يشبع فضولنا. هناك، بالقرب من الجدار، كان ملعب كرة القدم لأولاد الحي، ينبض فرحًا مشرقًا أبدًا. أربع أو خمس حجارة صغيرة مصفوفة بجانب بعضها مشكلة كومة صغيرة، على بعد أربعة أو خمسة أمتار، كانت الكومة الأخرى، أو غالبًا ما تكون حجرة كبيرة بحجم تلك الكومة.
على الخط الواصل بين الكومتين، يقف حارس المرمى، ينتظر الكرة ليدافع عن مرمى فريقه. هكذا بالنسبة للفريق الآخر في الجهة المقابلة.
بأيديهم صنعوا ملعبهم.
في الربيع، يتباهى الملعب بأعشابه الخضراء، كما الملاعب الدولية، يغرق في خضرة أعشابه، أشواك خضراء وأخرى بنفسجية تزين أطراف الملعب. لا تترك الفراشات ملعبهم، تطير معهم، تنثر رمادًا من عبق أنفاسهم وهم يركضون بعيونهم وقلوبهم خلف تلك الكرة.
لا يلبث أن يتحول الملعب في الصيف والخريف إلى غبار متناثر، يعلو مع صرخاتهم وتسارع حركات أرجلهم وهي تطارد الكرة تلك التي أخفت الغبار معالمها.
يزدحم النهار بأصواتهم، ضحكاتهم، وآثار أقدامهم تمحوها رياح الخريف لتتجدد في صباح اليوم الآخر.
بعد الانتهاء من اللعب، أو قبل البدء به، يكتبون بالأقلام أو بأي شيء على الجدار، ومن لم يجد شيئًا يكتب به، كان يكتب بالطين. فتبدو الكتابة وكأنها على مرقوق قديم.
يكتبون أسماءهم، حروفهم، يرسمون قلوبًا وورودًا، وكل ما يجول في فكرهم الحر.
مبتكرين، مبدعين، هكذا أوحت فرحتهم.
بكل حرية يكتبون على تلك المساحة التي احتضنت ما كتموه سرًا، أحلاما وآمالا.
يجدون في الجدار المكان المناسب للبوح بما لم يستطيعوا البوح به لأحد. يمنحهم فسحة من الحرية، تلك التي يفتقدونها على صفحات كتبهم وأوراقهم البيضاء.
كل يوم يكتبون، يلونون ذكرياتهم على صفحة الجدار، حتى تداخلت الحروف والكلمات كما الألوان، يبدو الجدار من بعيد لوحة تشكيلية تفوح براءة وعبقًا لا ينضب. يكتبون هكذا حتى الغروب.
يستسلمون إلى أحلامهم ليكملوا في الصباح ما لا ينتهي من الفرح.
وهل تنام الحروف..؟
في مرايا الخطوط والألوان، تشرق الحكايات، تعكس على أرواحهم كل تفاصيل الجمال.
على عتبة الفجر كانت خطواتهم تنتفض من آثار الظلام، يعزفون ربيعًا وابتسامات على قارعة الذكريات. حتى تحت المطر يكتبون..!!!
كم كان لطيفًا على ذكرياتهم، يمسح ما تعلق به من غبار، لم يخدش كبرياء الحروف فبقيت شامخة.
اللون الذهبي الطاغي في الصورة ذكره بذلك اليوم الخريفي. كم كان جميلًا! لبست الصباحات ثيابًا من تساقط الأوراق، حيث الريح المتناثر مع ضحكاتهم. عندما أخذ بعض الدهان الذهبي من البيت، في تلك العلبة الصغيرة، وبعصا رفيعة بدأ يخط على الجدار ما كان يفكر به طوال الليل.
بذلك اللون الذهبي المشرق، بدأت فكرته تشرق تحت الشمس.
رسم قلبًا كبيرًا ليتسع لحروف جميع أصدقائه، وطلب منهم أن يكتب كل واحد حرفه في الجزء الذي يختاره من مساحة القلب التي شملت نصف مساحة الجدار وباللون المفضل إليه.
فكان مهرجان الحروف والألوان.
ثم كتب تحت القلب الذهبي “أصدقاء للأبد”.
قلب من ذهب، حروف وأحلام ذهبية وذكريات لم تصدأ مع السنين. فكان ميثاق الذكريات.
بلا أقفال لم تبارح الذكريات جدارها، تنتظر حضور الغياب.
كل حرف يذكره بحكاية لا تنتهي أو نهاية مؤلمة تدمع قلبه، حرف الألف ذكره بصديقه آري الذي استشهد في الانفجار الارهابي في قامشلو في الحي الغربي، أما الشين فكان لصديقه شيركو الذي غرق في بحر إيجة مع أحلامه وحقائب من ذكريات، أما حرفا السين والراء والحروف الأخرى فللأصدقاء الذين فضلوا البقاء في قامشلو، ورغم كل الصعاب لا يزالون على قيد الحب، تترفع حروفهم عن النهايات الحزينة، يتوسدون الأمل بغد أجمل. وحروف أخرى غيرها كثيرة، تتدفأ بالحب الذي ينبض في القلب الذهبي.
في قلب ذلك القلب الذهبي يتربع حرف “الزين”. إنه حرف اسمه زرادشت وقصته كما قصص أصدقائه، قذفته أمواج الرحيل بعيدًا عن مهد طفولته.
توفي والده وعيناه تنتظران عودته.
يحلم زرادشت كل ليلة أنه يقبل شاهدة قبر والده. يحن لرائحة أمه، رائحة المكان، رائحة الانتماء، بدا كل شيء يشبه أمه وهو يمسح دموعه، ليتمعن حكايات الحروف من جديد.
أما حرف الميم فكان لصديقه ميران الذي أصبح إعلاميًا وهو الذي صوّر الجدار بعدسة الذكريات وأرسلها له.
بقي الجدار صامدًا، صامتًا، يحكي بنفسه لنفسه كل تلك الحكايات. حتى كان شهر أكتوبر، حيث الجدار نفسه بذكرياته أصبح ضحية للحرب، قذيفة غادرة أصابت الجدار في قلبه الذهبي، فهوى في مكانه، تناثرت ذكرياته، ابتعدت حروفه، كل قطعة من الجدار تحمل حروفا ذهبية وأخرى حمراء غير مكتملة. أجزاء من القلب، نقاط حروف مبعثرة بدت كبقع الدم وهو يحتضر بأحلامهم.
تشردت حروف ذلك الجدار النازف إلى تيه آخر.
أنى لها أن تندمل.
كل قطعة، كل حرف، كل الحروف، تركت موطن رائحتها، أثرها، عالم جمالها، وقلبها الذهبي كما أصحابها إلى متاهات لا متناهية.
إنه نزيف الحروف، وذاك السيل الجارف من الكلمات الثكلى، تنزف في مكانها وعلى تربتها، وفي ملعب طفولتها.
نزيف صامت بلغة المكان، أنين وصدى للحروف الجريحة، تهاوت كما أحلامهم.
وبقيت الذكريات صامتة ذات انتماء، كأنها تنتظر أن تلامس حروفها المبعثرة، عودة الغياب.
أفاق على نفسه، غارقًا في سيل ذكرياته، أنفاس رمادية من غرفته تلفح وجهه، وهو لا يزال يتمعن في تلك الصورة، ينصت إلى الألوان، إلى اليقين الحالم، إلى تلك الضحكات هناك، في ليلته المتموجة مع آخر أثر فضي من بقايا السهر.
لم يقرأ كل تلك الذكريات بعد، ألوانها المتداخلة تعبق بالفرح، بدت خطوط الطفولة مشرقة بلا عقد. إنها خارطتهم، خارطة بلا حدود من أحلامهم، تلك التي بقيت هناك تحت الأنقاض.
حروف كثيرة لم تزل بانتظاره لينسج منها حكايات الطفولة كل ليلة.
الحكايات المندثرة في خلاء الحروف، لا تزال مشرقة..!!
على صفحة الجدار، في ذلك الظلام الأعمى، حيث تمكث أحلامهم، ذكرياتهم كما الألم الأزلي.
كان للحروف حضورها البهي، ورائحة التراب هناك لا تفارق أنفاسه.
لا تزال ذكريات صورة جدار الذكريات تدفئ روحه في ذلك المنفى البارد.
*العربي الجديد/ ضفة ثالثة