هو جون لويس بوركهارت، أو «الشيخ» إبراهيم بوركهارت، كان باحثًا وأثريًا ورحالًا وجغرافيًا. لم تكن النوبة هدفه ولا جزيرة العرب وجهته، ولكن شاءت الأقدار أن يرتبط اسمه بما كتب عن هذه البلدان. أرسلوه ليكتشف سر النيجر، فإذا هو يدفن على ضفاف النيل بعد أن يطوف في أراضي الوطن العربي ثمانية أيام طوال في عمره القصير.
لا تتجلى عظمة بوركهارت فيما أضافه للعلم الغربي، ولكن في أنه صادق وحقيقي، فكان بوركهارت الأول في رحالة الجزيرة العربية الذي تقصى عن الحقيقة بكل الطرق، ووصف جدة ومكة وصفًا موسوعيًا، ونقل كل ما يتعلق بحياة البشر.
كان بوركهارت من الرحالة القلائل في هذا العصر الذين قاموا برحلاتهم خدمة للعلم، فلم يكن تاجرًا أو داعية حرب أو يسافر من أجل التبشير بدين. ولم يقدم بوركهارت للعالم في كتبه أدب الرحلات فقط، بل جاءت بحثًا اجتماعيًا في حياة العرب والأفارقة، ومثلها جاءت في التاريخ والجغرافيا والآثار.
سبق بوركهارت الرحالة المستشرقين إلى الجزيرة العربية في عام 1810، وألف هناك كتابيه: «ترحال في الجزيرة العربية» في جزأين، و«ملاحظات عن البدو والوهابيين» في جزأين أيضًا، والذي لم يظهر للنور إلا في عام 1928، ومعهما كتب «رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان»، و«الأمثال العربية»، و«رحلات في سوريا والأراضي المقدسة»، بخلاف الخرائط والرسوم البيانية التي ضمها إلى نصوصه.
الفصل الأطول في حياته
وُلد جون لويس بوركهارت عام 1784، بمدينة لوزان السويسرية، وكان الولد الثامن لأبيه، وكان الأب قد استهل حياته في أحسن الظروف، ولكن سرعان ما تغير الحال بقيام الثورة الفرنسية، واحتلال فرنسا لسويسرا، فبدأ يواجه منذ لحظة قيامها الأولى سلسلة من المتاعب والأخطار التي أوشكت أن تصل برقبته إلى المقصلة.
فقد حكم عليه الحزب الفرنسي بالإعدام بتهمة الخيانة لتسليمه حصن هننجن للنمساويين عام 1798، ثم ظهرت الأدلة الواضحة ببراءته مما نسب إليه، ولكنه ظل على رأس الشخصيات التي تقرر التخلص منها بأي وسيلة في السر والعلن. ففكر وخشي على أسرته بعدما تعرضت للظلم والتعنت، وظل متنقلًا في أوروبا لا يأمن لأحد.
تعلم بوركهارت على يد معلم خاص حتى التحق بجامعة ليبزج ثم جامعة جوتنجن، وعُرف بالاستقامة والاحترام، وطموحه العلمي والجد في تحصيل المعرفة. وعاش بوركهارت حياته يفتقد إلى الملاذ الآمن، فقد كان مثل أبيه لا يثق في رجال الثورة الفرنسية، فحمل كتبه ورحل إلى إنجلترا وهو في الخامسة والعشرين من عمره القصير.
وهناك عمل لدى الجمعية الأفريقية، وكُلف بالسفر إلى أفريقيا التي كانت لم تزل مجهولة للأوروبيين في بداية القرن التاسع عشر، وكان عليه اكتشاف سر نهر النيجر الذي كانوا يعتقدون أنه أحد روافد نهر النيل، في حين اقتصرت معرفة الأوروبيين بأفريقيا على اكتشافات المصريين والإغريق والرومان. وكان الرحالة القدماء يسلكون طرقًا ثلاثة رئيسية تسير مع السواحل الشرقية أو السواحل الغربية أو تصعد في حوض النيل حتى منطقة السدود.
«الحاج إبراهيم».. بوركهارت سابقًا
قبل سفره لأفريقيا تعلم بوركهارت العربية، وتمرّس على الحرارة والجوع والسير مسافات طويلة، وعندما استقل باخرة تجارية مقلعة من إنجلترا باتجاه مالطة، كتب لمديره بالجمعية بأنه سيسافر من مالطة إلى حلب باعتباره تاجرًا هنديًا يحمل رسالة من شركة الهند الشرقية إلى قنصل بريطانيا، ويُذكر هنا أنه نجح في أن يظهر بالمظهر الشرقي كي لا يقف على سره أحد.
عاش بوركهارت عامين ونصف في سوريا، وظل يحمل اسم إبراهيم بن عبد الله، ولمعرفته بفشله بتمثيل دور المسلم الشرقي، اختار أن يرتدي الملابس التركية كعادة الرحالة الأوروبيين اتقاءً لما يمكن أن يواجهه من إهانات، وليتمكن من التواصل مع العرب والأجانب.
تمرس بوركهارت على اللغة العربية في حلب، ثم تركها ليزور تدمر وحوران، والبتراء التي اكتشفها بعد أن أقنع السكان المحليين أنه أتى لتقديم أضحية للنبي هارون. ثم أكمل بوركهارت ووصل إلى السويس ليسلك طريق الحج حتى يصل إلى القاهرة، ويقضي بها فترة متخفيًا في زي تاجر مسلم بسيط، في انتظار أن يبدأ رحلته إلى بلاد النيجر.
وذيل بوركهارت كتابه «ترحال في الجزيرة العربية» برسالة أرسلها محمد علي باشا إلى المدينة المنورة، يخبر أهلها فيها أنه انتصر على الوهابيين، ورسالة أخرى أرسلها عبد الله بن سعود إلى طوسون باشا، الابن الأكبر لمحمد علي، بعد أن قرر مغادرة القصيم عائدًا إلى المدينة المنورة، ووجود هاتين الرسالتين يعني أن بوركهارت كان على مقربة من محمد علي باشا.
عميقًا عميقًا في بلاد النوبة
وصل بوركهارت النوبة في وقت غير مناسب، فقد تصادف مع هروب المماليك إلى هذه المناطق من مذبحة القلعة التي دبرها لهم محمد علي، ما جعله موضع شك لكثير من حكام النوبة، فقد ظنه الكثير منهم أنه أحد رجالات محمد علي، وجاء ليتجسس عليهم وعلى من يناصر المماليك من حكام النوبة ويتعاطف معهم، وهي الشكوك التي استمرت حتى كشف بوركهارت الخطابات التي كان يحملها لحكام النوبة من حاكم إسنا.
صادف بوركهارت صعوبات جمة في النوبة بسبب ظروفها الطبيعية، كانتشار الغابات الكثيفة، وامتداد الصحاري على سواحلها، وانتشار الصخور التي تعترض مجرى نهر النيل مما يعيق الملاحة فيه. فاجتاز بوركهارت القرى النوبية من شمالها إلى جنوبها، واستعان بالجمال في الطرق الوعرة، وتكيف مع الطعام الخشن الذي عاش عليه النوبيون من خبز مصنوع من دقيق الذرة الخشن، والإدام المطبوخ من ورق اللوبيا، والعدس المخلوط بالويكة.
خلال هذه الفترة حقق بوركهارت ما أتى من أجله، فعرف طبيعة البلاد بجبالها ووديانها وحيواناتها ومواسم الحصاد ومناطق التعدين، واكتشف معابدها المنتشرة في كل مكان وكتب عنها ابتداءً من معبد أبي سمبل ولم يكن يظهر منه سوى رؤوس التماثيل، ومعابد السبوع وكلابشة والدكه وقورته وقرشه ومرواو وبلانه، حتى قابل تعنتًا من حكام النوبة واضطروه لإنهاء رحلته قبل أن يصل إلى دنقلة، آخر بلاد النوبة في الجنوب.
أيام في الجزيرة العربية
في الجزيرة العربية كان إبراهيم بن عبد الله (بوركهارت) ضليعًا في الشريعة والأعراف الإسلامية، ولم ينكر أنه أوروبي، ولكن كان يدعي -ادعاءً مقبولًا- بأنه مرتد عن دينه وداخل في دين الإسلام منذ بضع سنوات، وبالفعل لم يكن بوركهارت يفعل في حياته اليومية غير ما يفعله رجل دين مستنير ومتعلم.
ويحكى أن محمد على أراد ذات مرة أن يختبر إسلام بوركهارت، فقد كان يعرف أنه على علاقة بإنجلترا، فبعث له في مركز قيادته بالطائف باثنين من أكبر علماء الحجاز ليمتحناه ويعرفا مدى علمه بالقرآن، ودرجة فهمه للشريعة الإسلامية، وكانت النتيجة أن اقتنع الممتحنون بصحة إسلامه.
لم يكن يعرف الأوروبيون شيئًا عن الجزيرة العربية التي كانت مقصورة على الحجاز أو أرض المسلمين المقدسة، حتى أقام بوركهارت في الجزيرة العربية على أنه مسلم، بين أناس لم يصل إليهم الرحالة بعد، ولم يستطع أحد أن يكتب عنهم من قبل، وخاصة غير المسلمين، الذين لم يكن مسموحًا لهم بالبقاء في الجزيرة.
كتب بوركهارت تاريخ الأرض المقدسة والمسلمين، تلك المنطقة التي لم تكن معروفة في أوروبا في القرن التاسع عشر، ووصف مكة والمدينة المنورة وينبع في كتابه «ترحال في الجزيرة العربية»، ولم يواجه بوركهارت أخطارًا كبيرة أو صعوبات غير مسبوقة، ولم يدخل في مغامرات مدهشة، ولم يتمكن منه المتشددون في موسم الحج أو البدو على الطرق؛ فكان بوركهارت واحدًا من أولئك الرحالة المستبصرين الذين يمضون فيما يفعلونه بسهولة، في حين يكابد فيه رحالة آخرون المتاعب.
حياة قصيرة.. ورحلة لم تكتمل
بعد أن تحسنت علاقة بوركهارت بمحمد علي بإثباته إسلامه، عاد في ثوب التقوى والدين إلى المدينة المقدسة ليكون في انتظار قوافل الحج، وأدى فريضة الحج بصحبة المؤمنين في شهري نوفمبر (تشرين الثاني) وديسمبر (كانون الأول) من عام 1814، على أن يعود معهم إلى مصر ويزور الآثار الحجرية في مدائن صالح في طريقه برًا.
ولكن ضاعت فرصة العودة لمصر منه، فقد هرب الجمالة المرافقون له، وغادر مكة المكرمة مع بعثة الحج السورية وهي متجهة نحو المدينة المنورة في شهر يناير (كانون الثاني). رافق بوركهارت هذه الجماعة على الطريق الساحلي، وزار قبر النبي قبل أن يلازم الفراش حتى شهر أبريل (نيسان)، وبعد أن تعافى، ووصل إلى ينبع، استقل منها سفينة ليصل إلى القاهرة.
لم يسترد بوركهارت عافيته أبدًا بعد إقامته في الحجاز، ولم يبرأ من الآثار التي سببها المناخ فيها، فقد كانت هجمات الحمى والزحار التي عانى منها في بلاد العرب هي السبب الأول الذي أدى إلى وفاته بعد عامين من عودته، وأوصى وهو على فراش الموت بأن يدفع نصيبًا في مشروع جمع الآثار المصرية، وكانت جنازته إسلامية كما رغب، وكانت حياته حافلة تتفق مع المكانة الطيبة التي كانت له في عيون المصريين، واكتشافه معبد أبو سمبل، حتى استقر جسده على ضفاف النيل الذي صاحبه خمسة أعوام، وهو لم يكمل بعد 33 عامًا.
المصادر التي اعتمدتها الكاتبة
صورة قبر إبراهيم بوركهارت – المصدر موقع الأهرام.ترحال في جزيرة العرب: يتضمن رواية تاريخ مناطق الحجاز المقدسة عند أمة محمدالعادات والتقاليد المصرية من الأمثال الشعبية في عهد محمد عليTravels in Syria and the Holy Landكتاب أوروبيون في الحرمين الشريفينرحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودانملاحظات عن البدو والوهابيينترحال في الجزيرة العربيةكتاب الفضول القبيلية اللامية الطائية في نجدكتاب من سيرة المماليك
مصدر المقال : ساسة بوست