ريمه العجاجي: أمل على ذمة شباط

0

زياراتي القليلة للمكان الذي ولِدتُ فيه تناقضُ ماسكن في رأسي عن المكان وسحره، تباريحٌ طويلة الأمد سكنتني، وأنا أنظر للرصيف الذي غادرت منه، في تلك الساحة التي تئن مع نواعيرها الأبدية النوح، لم أكن سوى كومة لحمٍ لاحول لها ولاقوة، بين ذراعي أم لاتطفىء شموع الغياب.

مسكونةٌ انا بهذا  المكان الذي رسَمتْ أمي إحداثياتهِ في رأسي الصغير، منذ قرابة الأربعين عاماً، بقعة من الرصيف  لاتخرج من روحي.

في ذلك اليوم الشباطي ومن هذه البقعة سوف تغادر أمي باتجاه الشرق، بينما تهب عليها من جميع الجهات رائحة مدينة  توشك على الموت، سوف تبدأ من هنا رحلة انتظار لرجل لن يعود يوماً من هوَّة الغياب، وبين دوخة و رهبة ونشوة تصل حدّ الانخطاف على   مستوى لحظة اللقاء بمكانك العتيق، تغمرك شلالات  الفيوضات الشاعرية، لتضيق بك الدنيا على  شساعتها، وتستوي في عينيكَ الجغرافية التي تلدها الألفة ويضيق بها البيان  ويتبلّد عندها  المعنى، لكنَّ عيني المنذهلة المترعة بالحنين، والذاكرة المصنعة، ترسمُ تفاصيلَ الحدثِ كما روتها أمي أمل وسقتها لتربة ذاكرتي البِكرْ …  أمل  التي شاختْ في هجيرِ الأملِ ولم ترعوي بعد، فاستحقت لقب حارسة الغياب.

بدأ ذلك منذ أربعين عاماً حين  همَّت غيوم شباط أن تلقي حمولتها على ظهر هذه الأرض، وعصفت رياحه بأبواب القلب وشبابيكه، تدخل ذاكرتي التي نحتتها في قلبها منذ أول دقة لساعة الفراق على ذلك الرصيف البعيد في ساحة العاصي،وهي  تتلو عليها ماتيسر من وجه الغائب، ولون التراب الأحمر الذي كان يحفظ رائحة المطر والقمح ..  يقرع شباط الدامي بطرف خنجر ققلب أمل  الذي امتلأ بالثقوب وهي تتجول في معابد الانتظار.

على ضفاف الفرات كَبِرتُ ولم أحفظ مقامات النواعير بانينها المُتْعَبْ  ..حفِظتُ حكاية امرأة  ظلت لاربعين عاماً على قيد اسمها   .. قالت : أنا امرأة  طاعنة بالشوق يابنيتي  وأنت الحمامة التي تهدل على غصني  .. 

تردِدُ على مسامعي  كل تلك التفاصيل، وفي التفاصيل تكمنُ شياطين الوجع ، تكرر تلاوة سِفْرَ خروجها النهائي من المدينة قبل أن تقع تحت الحصار، طقسٌ اعتدته من أمي، مثل  قراءة الفاتحة على قبرِ ميتٍ، أو بسملة أبدأ بها الطعام.

في شباط ذلك العام، وفي ساحة العاصي، حملتني على صدرها،  وهي تَلُفُّني بقماطٍ صوفي اتقاءَ البرد.. بينما النواعير مازالت تردد نوحها العتيق.

بقامته الفارعة،  ووجهه الأبيض، الذي اكتسى بحمرة البرد، حتى كاد الدم ينفر من شعيرات خدوده الدموية، وقف ناجي و حبيبته أمل، التي أصبحت زوجته على الرصيف، في انتظار انطلاق الحافلة نحو حلب – الرقة. مرتدياً معطف جوخٍ أسودٍ سميك ويلف رقبته بلفاحة صوفية ذات لون بني فاتح، تحملني بين ذراعيها ولم أمتلك يومها من عمري سوى بضعة أشهر، كنت باكورة حبهما قال لها مطمئناً :

– سينتظرك عمي في كراج الرقة..  لاتخافي سألحق بكم لكنني سابقى الآن مع أبي وأمي فهما بحاجتي كما تعلمين ، عمي هناك سيعتني بك وبمروى ريثما أجيء وآخذكم بعد انتهاء هذه الازمة.

قالت وعيناها طافحتان بحزن الوداع وخوف الفراق :

-أنتظرك… لن تغمض جفوني قبل أن أراك مرةً أخرى…

قبل صعودها الحافلة  عانقها، أخذني  لحضنه وقبّل جبيني وأخذ يشمّني، وهو يأخذ نفساً عميقاً، كأنه يريد اختزان رائحة الطفلة  في عمق رئتيه، وذاكرته.

صَعَدَتْ أمل إلى الحافلة، وأنينُ النواعيرِ يتسلل إلى مسالك ذاكرتها ليقبع هناك.. طويلاً.. طويلاً.

تغادرُ الحافلةُ حدود المدينة التي بدأت بعض التشكيلات العسكرية تضع عدتها وعتادها حول جهاتها الأربعة، وتنشر عساكرها ذوي البدلات المموهة كجراد مبثوث..

وجه ناجي  الذي ينضحُ محبة وقلقاً، يتراءى لعينيها الدامعتين من خلال زجاج الحافلة، التي بدأت تبتعد عن حدود المدينة الموعودة بحلكة الدم، وكوابيس موت ستلاحق أهلها سنيناً طوالا، ثم نظرت لوجهي :

-كم تشبهك ياناجي! ابتسمت ومهرُ ذكرياتها بدأ يصهل في رأسها.

 لم يخذلها مرة، ولن يخذلها هذه المرة، وستنتهي محنة المدينة، ويأتي للرقة لأصطحابها ومروى إلى المنزل الكبير، الذي يعيش به مع والديه في حي الكيلاني، المزدحم بالتاريخ، وفنون العمارة، والزوايا، والحمامات الأثرية .

توقفت الحافلة في حلب، حيث نزل بعضُ الركّاب في كراجها وصعدَ آخرون ووجهتهم الرقة، تحركت الحافلة عابرة الأحياء الحلبية، التي ماتزال بقايا المذبحة مرسومة على وجوه أهلها، وثقوب الطلقات تشوِّهُ واجهات أبنيتها، بينما الحواجز العسكرية، لذوي البزّات المموهة، ماتزال منتشرة داخل وخارج المدينة.

 اتجهت الحافلة نحو الشرق ، حيث الرقة، والفرات، والجسور، والمدينة التي تنام على ارثها التاريخي، بابنية جديدة، وتاريخ حديث خالٍ من الحروب.

تتساقط أوراق الأيام من روزنامة الزمن المثتاقل بخطاهُ على قلبِ أمل، بينما كان يهرول في عُمْريَ الغض.

المعركة التي كانت من طرف واحد، انتهت والقادمون من الموت يقولون أن الحي التاريخي  أصبح انقاضاً ، عم ناجي يؤكد أن ناجي ومن بقي هناك حصدتهم رشاشات الجيش الذي استباح كل شيء، وقال بعضهم ان الجيش اعتقل آلاف الشباب، وتم سوقهم إلى جهات العدم، فاختارت أمل أن تتمسك بروايات الغياب، ولاتغلق دفتر ناجي بتأكيد رواية عمه.

يدْلُقُ الليل  الفراتي الف آه على ناجي، الذي  أصبح قصة ماقبل النوم، وقبل ان اتعلم نطق كلمة /بابا/، بدأ عقلي يرسم الأب  كما تصف أمل، ناجي قدّيسٌ استراح  في ظل  ذاكرة الإبادة… هكذا كنت أراه  ببراءة طفلة ولدت قبل  المذبحة بعدة أشهر.

لاأعرفُ من اين تبدأ الأسئلة الوعرة ، ومتى؟ ، وكيف؟ ولماذا؟ وكلما مرّ الزمن يصبح انتظار عودة  ناجي  قناعة لدى أمي، ترسخها في عقلي ،  .. ذكرى اليوم الذي غازلها فيه بنظرة من بعيد، ثم قصة الحب الصامتة في حي الكيلاني الذي تُحَتِّمُ تقاليده الصارمة أن يكون الحب اخرساً، و الزواج صاخباً…

لم يكن لناجي قبرٌ معلوم، إلا في قلبها، لذلك هي تغازله حين يدلفُ الحنين مرة واحدة، سيعود ناجي كما يعود محارب ميؤوس من عودته، ربما في ليلة إسراء من ليالي شباط الباردة في هذه المدينة، سيطرق الباب بمعطفه الأسود ولفَّاحته البنية، سَيُسرى به ذات هزيع أخير من عُمْرِالانتظار.

أنهض بجسدي الطفولي وأعبرُ به إلى يفاعة الانوثة، وقد أصبحَ وجهي مرآة لملامح ناجي فتكرر أمل على مسمعي كلما بهتت ملامحه في ذاكرتها :

-كم تشبهين ناجي بعينيك وبشرتكِ وطولكِ وابتسامتكِ.

كَبِرتُ كثيراً في الوطن القليل . وشاخت المذبحة بالتقادم ،و طقوس أمل بالانتظار، تلهمني خيالات تنمو مع الجمال الصارخ الذي غدوت عليه، أكلتُ الطعامَ القليل الملح، لأن حارسة الغياب  تطبخه كما يحب ناجي، ارتديت معها كل ماكان يحبه من ألوان . وكان للتركواز حصة كبيرة لناجي .. ناجي يعيث شوقاً في متاهات الليل، وهي تعبرُ سراعاً في عمر امل، يتسلل الضوءُ في قناديل انتظارها، الذي تعودته  كطقس شباطي.

تقول لي منذ نعومة العمر : ستحمله إحدى الحافلات القادمة من الغرب.. سيعبر الجسر ويطرق الباب، سيحضرُ  لنعود سوياً إلى ساحة العاصي حيث ودعته عندها منذ تسعة وثلاثين شباطاً .

يراودني في أحلامي، ذلك البيت الذي شهد ولادتي، في الكيلانية ولم أشهد موته، ودفن روحه مع حجارته التاريخية، تحت عمارات حديثة جثمت فوق الحي بكل صلافة الذين عبروا من هنا ذات شتاء، ببنادقهم وسكاكينهم ودباباتهم.

زحف عمري نحو الأربعين، مثلما  تزحف إلى فكري الأسئلة الدافئة، قبل أن تحبو أمام  الأجوبة القبيح،  الجامدة حدَّ التخشب.

هنا في الرقة، تبدو ذكريات المكان الآخر مسقط رأسي ورأس ناجي و أمل،  شوكة تنغز الأشواق المكبوحة بالغياب، ووحشة الحلم الذي لن يتحقق، ولن يعود ناجي من قبره المجهول، أو ربما  زنزانته الباردة، تسع وثلاثون سنة مرَّت والحلم يزدادُ ضيقاً بأوهام الريح التي تأتي من الغرب، أو حافلات الوهم، التي تنتظرها أمل على طول المدى الشاسع الممتد من  المذبحة، إلى حدود المذابح والخراب الجديد للرقة..القاتل واحد، والجزار يحمل نفس المدية طوال هذه السنين، ليقطع بها رؤوس المدن التي استحالت لأروح نائحة، وهي تصعد سلالم  الهباء…

 كنت الطفلة التي هربت بحضن امل، من ساحة العاصي إلى ملاذات الفرات الآمنة…حيث كَبِرتُ ودرستُ وتزوجتُ.. لكن سلالة  الجزار الذي سحق الكيلانية قبل أربعين عاماً، يسحق الآن المدينة العباسية ويصبغُ لون فراتها بالدم، كما صبغ والده مياه العاصي يوماً.

هنا في القارة العجوز، وكلما مرّ شباط أنظر إلى  البعيد..إلى الافقٌ الذي يقع خلف الجبال الزرقاء المكللة بالثلج .. لبلادٍ تركتُ فيها قبر أمل، التي ماتت ولم تحمل لها الحافلات ناجي القادم مع رياح شباط البارد .. وعلى ذمة أملٍ أنتظر زوجي الذي غاب مثل ناجي قبل سبع عجاف  ، هكذا  أرضعتني امل حليب وذاكرة الانتظار، وتركت لي إرث حارسة الغياب بحذافيره.

*اللوحة المرفقة من أعمال الكاتبة والفنانة  ريمه العجاجي

*خاص بالموقع