ريما فليحان: إلى سما ووعد بالحرية

0

ليس سهلاً أن تختزل المقتلة في ساعة وعشرين دقيقة تقريباً من التوصيف، فحكاية السوريين معقدة، ومؤلمة، وعمل على تزويرها وتشويهها بشتى الوسائل والطرق بشكل ممنهج.. نسي العالم أن ما حصل في سوريا ثورة سلمية أرادت الخلاص من نظام قمعي ديكتاتوري عمره ما يزيد عن نصف قرن، وأن النظام السوري بادر بالعنف ونهج الإبادة منذ البداية، وأن عسكرة الثورة كانت جزءاً مما حصل لكنها ليست أصل الحكاية، كما كانت الفوضى ودخول المجموعات الإسلامية المتشددة على الخط ليست الثورة وليست امتداداً لها وللسوريين، بل أجندة ثالثة تم استحضارها لوأد تلك الثورة وخدمة كل من يستفيد من قتل إرادة التغيير بالمنطقة.

نسي العالم أيضاَ أن المستهدفين بقصف النظام ومجازره الجماعية لم يكونوا من تلك الجماعات المتطرفة بل كانوا دوماً من المدنيين والأطباء والنشطاء السلميين والأطفال وبالعموم أهالي كل منطقة حلم أبناؤها بتغيير النظام وعبّروا عن ذلك الحلم بالتغيير عبر المظاهرات.. يحاول بعض السياسيين والنشطاء التذكير بتلك الحقائق عبر وسائل الإعلام لكنها لا تغدوا أن تكون أكثر من دقائق بسيطة في نشرة الأخبار وكلام جاف يمكن التشكيك به عبر كلام مخالف صارد من أقلام النظام المأجورة وأبواقه القذرة.

لكن ماذا إن شاهدت الحقيقة أمام عينيك؟! ماذا إن ارتعش القلب وتقطعت الأنفاس مع صوت القصف وعويل الأمهات الثكلى؟ ماذا إن اختنقت الأنفاس وحاولت تلمس الحياة مع طفل يحاول شق طريقه نحو الأوكسجين بعد أن أخرج عنوة من رحم أم أصيبت بالقصف هي الأخرى؟ ماذا إن جرّبت أن تكون سورياً عاش تجربة الثورة والحرب والحب والموت والحياة معاً، هناك حيث سينتابك خليط المشاعر العجيب الذي عاشه السوريون ويعيشونه كل يوم؟ حين يكون الضحك فعلاً ممكناً وهم في كامل الوعي أن في هذه اللحظة ذاتها أحداً منهم قد يغادر الحياة باعتقال أو برصاصة قناص أو تحت الركام؟ يمكن لهم أيضاً أن يحبوا وأن يعلنوا هذا الحب بينما يغتال الأحلام في الخارج هدير القصف الهمجي والمجنون.. يمكن لهم أيضاً أن يضحكوا مع فلذات أكبادهم في عتمة الأقبية وهم يحاولون تجنب الموت المتربص بهم مع براميل النظام المتفجرة الهابطة من المروحيات وأسلحة الروس التجريبية.

فرصة المشاركة الإنسانية تلك ورؤية الحقيقة العارية كما هي قدمتها وعد الخطيب الصحفية والأم الشجاعة عبر توثيقها لتلك اللحظات من أجل سما.. سما ليست فقط ابنة وعد وحمزة الطبيب الإنسان العظيم الذي لم يدخر أي جهد لإنقاذ الأرواح.. سما هي حلم وأمل بالحرية.. هي الطفولة التي سلبت أبسط حقوقها في سوريا فولدت بين كل هذا الموت لتقول أريد أن أعيش ومن حقي أن أعيش..

فيلم إلى سما هو فيلم تم توثيقيه بعيون أم مؤمنة بكرامتها وحريتها عاشت الحدث بنفسها وثقته بكاميرتها، ويمكن اعتبار الفيلم تسجيلاً إنسانياً تاريخياً لواقعة اغتيال مدينة بأهاليها، وتضحيات أبنائها حتى اللحظة الأخيرة التي قضوها في مدينتهم من خلال قصة أبطال الفيلم والدائرة المحيطة بهم بشكل عفوي وعميق في آن معاً، وهو أهم ما يمكن أن يقدم كمادة تسجيلية توثيقية للحدث، ليس عادياً أن يعبّر الفيلم بمشهد لا يتجاوز الثلاثين ثانية عن عمق قسوة فكرة النزوح عن وطن وذاكرة وتاريخ بهذه البساطة والعمق في آن واحد من خلال دموع الطفل الذي تبكيه فكرة الرحيل عن مدينة حلب أكثر من الخوف من فكرة الموت ذاتها؟! بأن يعبّر عجز الطفلين أمام موت أخيهم الأصغر عن عجزنا جمبعاً وعدم قدرتنا على تغيير الحدث، بأن تبكي قلوبنا ألماً مع الأم التي تحمل جسد ابنها وتهرب به إلى خارج المستشفى رافضة تسليم الجثمان ونستذكر في ذات اللحظة كل مأتمنا وخسائرنا لكل من رحلوا في غفلة عنا خلال عشرة سنوات ثم نستذكر حلم تم قتله ويقتل كل يوم بينما مازلنا ممسكين بجثمانه بكل إصرار.

يصفع هذا الفيلم كل ممثلي العار وكتابه ومخرجيه والذين كذبوا هذا الألم بل سخروا منه وسفهوه.. يصفع أيضاً النظام وادواته وحلفائه مستخدماً أدوات تصوير بسيطة روى الفيلم من خلالها كل الحكاية ورسم ملامحها بالدم القاني المسفوح على أرض المستشفى.. وبشحوب الموت على وجه الأطفال الذي كان كافياً ليروي كل الحقيقة..

لربما لم يحصل الفيلم على الأوسكار لكن مجرد تسميته للجائزة وحصوله على عشرات الجوائز الأخرى كان كافياً ليوضح مدى قوة هذا الفيلم وإنسانية والرسالة التي قدمها، وتختصر العبارة التي كتبت بالخط العربي على فستان وعد الخطيب بحفل الأوسكار مقولتنا جميعاً نحن كل من آمن بالثورة والحرية والكرامة.. نعم يا وعد تجرأنا على الحلم ولن نندم على الكرامة.

أخيراً لا يمكن لكلمات أن تفيكم ما تستحقونه من تقدير.. ولكن تحية لك وعد الخطيب وتحية لكل من ساهم في إنتاج هذا الفيلم والأهم لأبطال الحياة الأطباء والطواقم الطبية التي عملت في سوريا وما زالت تعمل بين كل هذا الموت..

المصدر: ليفانت

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here