منذ انتخابهن في أواخر السنة الماضية، هزت أربع نساء تقدميات بمن في ذلك الفلسطينية الأمريكية رشيدة طليب، والصومالية الأمريكية إلهان عمر، والأمريكية من أصل أفريقي أيانا بريسلي، واللاتينية الأمريكية ألكساندريا أوكاسيو كورتيز قاعات الكونغرس المرموقة.
لقد ناصرت كل من طليب وعمر وجهات نظر لم يجرؤ أبدا أعضاء ديمقراطيون على تبنيها، إذ أيدت كلتاهما حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، كما أبدت طليب دعمها لحل الدولة الواحدة. وحتى مع تهديدات جماعة اللوبي اليهودي الليبرالي “جي ستريت” بسحب دعمها لطليب، تشبّثت العضوة في الحزب الديمقراطي برأيها ولم تتراجع على عكس أعضاء آخرين.
أما إلهان عمر، فقد عملت على التنديد باللوبي الإسرائيلي وبتأثيره السام على الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وقد أثارت تغريدة لها تحت عنوان “كل شيء عن بنيامين” غضب معظم المنظمات الوطنية المؤيدة لـ”إسرائيل” والعديد من صناع القرار الديمقراطيين والجمهوريين.
استهداف النساء من صاحبات البشرة الملونة
تولّت العضوات الأربع البارزات في الكونغرس قيادة حزبهن عوضا عن رئيسة مجلس النواب وزعيمة الديمقراطيين نانسي بيلوسي. لقد استنكرن الإجراء الذي دعمه الحزب الديمقراطي الذي ساهم في تمويل جدار ترامب الحدودي، بحجة أنها بمثابة الخيانة لمصالح المهاجرين والأطفال المحتجزين على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة.
كلما أثيرت قضية العنصرية يظهر اسم الرئيس دونالد ترامب الذي يتبنى بشكل منتظم آراء عنصرية ويستمتع بمشاهدة الأحداث التي تدور داخل الحزب الديمقراطي
أثار هذا الموقف غضب بيلوسي ومؤيديها في المجلس. لقد قللت بيلوسي من شأن العضوات الأربع، المعروفات الآن باسم “الفريق” مشيرة إلى أنهن “جميعهن يملكن عالمهن على تويتر ولكنهن لا يتمتعن بقاعدة من المتابعين، فهن يمثلن أربعة أشخاص، وهو ما يعادل عدد الأصوات التي حصلن عليها”. وخلافا لما تدعيه بيلوسي، تملك كورتيز حوالي خمسة ملايين متابع على تويتر، بينما يبلغ عدد متابعي بيلوسي أكثر من نصف هذا العدد بقليل.
تجدر الإشارة إلى أن عضوية كورتيز في الكونغرس بلغت فقط ستة أشهر في حين دامت مسيرة بيلوسي السياسية 32 سنة. وقد وُصفت تصريحات بيلوسي بأنها تستهدف النساء صاحبات البشرة الملونة على وجه التحديد، ما يثير مسألة العنصرية التي تمثل قضية مثيرة للجدل في الولايات المتحدة.
كلما أثيرت قضية العنصرية يظهر اسم الرئيس دونالد ترامب الذي يتبنى بشكل منتظم آراء عنصرية ويستمتع بمشاهدة الأحداث التي تدور داخل الحزب الديمقراطي. علاوة على ذلك، زاد الرئيس المتطفل المعروف بالتدخل في شؤون لا تعنيه، الطين بلة من خلال الإدلاء بتصريح مفاده: “أعتقد أن كورتيز تقلل من احترام شخص قضى فترة طويلة في المجلس، وأعتقد أن مجموعة من الأفراد يعاملونها بقلة احترام كما أؤمن بأن نانسي لن تسمح لهذا الهراء بالاستمرار”.
“أعدها من حيث أتت”
في غضون أيام، شن ترامب هجومه المشؤوم ضد عضوات الكونغرس الأربع قائلا: “لماذا لا يعدن ويساعدن على إصلاح البلدان المدمّرة التي أتين منها والتي تعج بالجريمة، ثم بإمكانهن العودة ليبيّن لنا كيف تجري هذه العملية”. في الحقيقة، جميعهن مواطنات أمريكيات، ولدت ثلاث منهن في الولايات المتحدة.
استمتع الرئيس بالهجمات التي عززت دعم قاعدته الشعبوية والتي تتكون من غالبية بيضاء من الطبقة العاملة
بعد مرور بضعة أيام، وفي تجمّع جماهيري حاشد، هتف مؤيدو ترامب مرددين العبارة التالية: “أعدها من حيث أتت”، ما أتاح الفرصة للديمقراطيين لتجاوز خلافاتهم بصفة مؤقتة؛ حيث أصدر مجلس النواب قرارًا بتوبيخ ترامب على خلفية استخدامه استعارات عنصرية بغيضة.
استمتع الرئيس بالهجمات التي عززت دعم قاعدته الشعبوية والتي تتكون من غالبية بيضاء من الطبقة العاملة. وبعد فترة وجيزة من صدور القرار، اختارت كل من رشيدة طليب وإلهان عمر الاستفادة من التغطية الصحفية الهائلة بهدف الإعلان عن اعتزامهما زيارة فلسطين خلال الأسابيع المقبلة. لقد كان هذا الأمر دليلا على اتباعهما نهجا غير تقليدي.
كل سنة، يتولى قادة الكونغرس من كلا الحزبين قيادة وفد مدعوم من قبل لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية غير الربحية نحو “إسرائيل”. وغالبا ما تزخر الجولات بالرسائل المؤيدة لـ”إسرائيل” بما في ذلك عقد اجتماعات مع مسؤولين إسرائيليين في كل من المؤسسة العسكرية وأجهزة المخابرات بالإضافة إلى رئيس الوزراء. وتعد الاجتماعات مع محمود عباس والسلطة الفلسطينية فكرة ثانوية يقع إدراجها في صندوق كُتب عليه “حل الدولتين” حتى توحي بأنها تندرج ضمن نهج منصف إلا أن الحقيقة عكس ذلك.
لا تنطلي هذه الحيل على طليب وعمر إذ تصرّان على الذهاب إلى فلسطين. ومن غير المرجح أن تجتمعا مع جنرالات الجيش الإسرائيلي أو أعضاء الكنيست أو بعض الوزراء. لكن تتمثل العقبة الرئيسية التي تشكل خطرا على نجاح خطتهما في دعم كلتاهما لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، ما يسمح لـ”إسرائيل”، التي سبق أن سنت قانونًا يمنع دخول المتعاطفين مع هذه المنظمة إلى البلاد، بمنعهما من المرور.
أعلن سفير “إسرائيل” لدى الولايات المتحدة، رون ديرمر، أنه سيتم السماح لعضوات الكونغرس بدخول “إسرائيل”
من أجل بلوغ فلسطين، يجب السفر عبر مطار بن غوريون أو جسر الملك حسين عبر الأردن علما بأن كلاهما يخضعان لسيطرة “إسرائيل”. وقد رفضت السلطات الإسرائيلية بشكل روتيني دخول المسؤولين الأوروبيين ووزراء الخارجية الذين يعتبرون أطرافا معادية للمصالح الإسرائيلية.
بالنظر إلى أن ترامب أصبح عدوًا للفريق، وأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو يعد حليفا مقربا منه، قد يتوقع المرء أن يصدر رئيس الوزراء الاسرائيلي أمرا يمنع طليب وإلهان من المرور إلا أنه لم يفعل.
في سبيل تجنب احتمال القيام بدعاية مجانية ومؤيدة للفلسطينيين، ارتأى زعيم “إسرائيل” التكتم نظرا لأنه يعتبر الجزء الأفضل من الشجاعة. في هذا الصدد، أعلن سفير “إسرائيل” لدى الولايات المتحدة، رون ديرمر، أنه سيتم السماح لعضوات الكونغرس بدخول “إسرائيل”. وفي حال اعتقدت أن هذه النهاية سعيدة، فستكون مخطئًا نظرا لأن “إسرائيل” لم تنته بعد إذ ستبذل كل ما في وسعها من أعمال تخريبية لتعطيل سير الجولة.
يمكن أن تواجه عضوات الكونغرس انتقادات لاذعة في حال رفضن زيارة “إسرائيل” أو مقابلة مسؤولين إسرائيليين. وبما أن “إسرائيل” تفرض سيطرتها على جزء كبير من الضفة الغربية سواء بحكم الواقع أو بحكم القانون، فمن المحتمل أن تحيطهن بالجنود وضباط الأمن بحجة أنها بحاجة إلى حمايتهن وذلك بهدف إعاقة وصولهن إلى الفلسطينيين الذين يسعين للقائهم.
من المرجح أن تكون هذه التجربة مذهلة لا سيما وأن “إسرائيل” معتادة على زيارات الكونغرس الأقرب إلى أن تكون حملات دعائية
يتبع نتانياهو أسلوبا في غاية الذكاء، فهو معروف بأنه سياسي مراوغ ودائما ما يفكر في مصلحته الخاصة. وبالتالي، ستحتاج كل من طليب وعمر إلى توخي الحذر الشديد في التعامل مع هذه المسألة خشية أن تقعا في فخه. ومما لا شك فيه أنهما قادرتان على تجاوز هذا الأمر وأكثر من ذلك نظرا لأن الانتصارات التي حققتاها إلى حد الآن تنم عن حنكة سياسية كبيرة.
المضي قدما
من المرجح أن تكون هذه التجربة مذهلة لا سيما وأن “إسرائيل” معتادة على زيارات الكونغرس الأقرب إلى أن تكون حملات دعائية. سيكون من المثير للاهتمام أن نشهد على ما ستؤول إليه الأمور مع عضوات الفريق اللاتي يعملن على تحدي “إسرائيل” ويرفضن قبول الخطط الدعائية التي قدمتها “إسرائيل” لزملائهن على مدار عقود.
من الناحية السياسية، يستفيد كلا الجانبان من خطوط المعركة المرسومة بين ترامب والعضوات الشابات اللاتي يلعبن دور الخصم بالنسبة له. لا يمتلك ترامب مصلحة في توسيع قاعدته الانتخابية، لكنه يحتاج إلى جميع الناخبين من البيض والمناطق الريفية والطبقة العاملة في حال كان يرغب في الفوز بفترة ولاية ثانية.
أصبحت الأفكار والبرامج التي لم يكن يُسمح بالتطرّق إليها في السابق، على غرار حق الجميع في الرعاية الصحية، والصفقة الجديدة الخضراء، والتعليم الجامعي المجاني، سائدة. المستقبل الآن بين يدي “الفريق”.
تختلف الولاية بالنسبة لكل من طليب وعمر وأوكاسيو كورتيز وبريسلي، إذ يدركن أنهن يمثلن مستقبل الحزب الديمقراطي. ومن المحتمل ألا تستمر بيلوسي كمتحدثة باسم الحزب بعد سنة 2020، حيث يؤمنن بأن المتحدث القادم سيعكس مبادئهن وقيمهن الشبابية بشكل أكبر. أما ترامب، فسيواجه صعوبة في الفوز بالانتخابات مرة ثانية. وتعد فرص وجود رئيس ديمقراطي وتقدمي خلال سنة 2020 واعدة للغاية، كما أن التركيبة السكانية في البلاد تساعد على ذلك.
منذ أن أدار بيرني ساندرز حملة تمرد ليتحول إلى المرشح الديمقراطي للرئاسة في سنة 2016، باعتباره اشتراكيا ديمقراطيا لا يعترف بأخطائه، طرأت بعض التغييرات على الخطاب السياسي التقليدي. وفي الوقت الحالي، أصبحت الأفكار والبرامج التي لم يكن يُسمح بالتطرّق إليها في السابق، على غرار حق الجميع في الرعاية الصحية، والصفقة الجديدة الخضراء، والتعليم الجامعي المجاني، سائدة. المستقبل الآن بين يدي “الفريق”.
* مدون وكاتب مهتم بالصراع العربي الإسرائيلي
المصدر: ميدل إيست آي
ترجمة وتحرير: نون بوست