روجيه عوطه: تصويت الشعر: إخراج اللغة من اللغة

0

أريد التوقف بدايةً على ما أعنيه بالتصويت القصائدي، وهذا، بالاستناد الى مقاربة الصلة، أو بالأحرى الصلات، بين الصوت والشعر. لهذا، انطلق من هذا الطرح البسيط: الشعر، باعتباره خوضاً في اللغة، هو، بدايةً، خوض لكلماتها بما هي مواد صوتية. خوض هذه الكلمات-المواد الصوتية يعادل الانصات اليها بطريقة محددة، مفادها ان الانصات الى اي كلمة، وكمادة من ذلك القبيل، تحيل إلى غيرها. وبإحالتها هذه هي تحمل، وفي المحصلة، إلى ربطهما، الذي يؤدي إلى القصيدة، أو إلى ما يمكن تسميته، أولياً، المنشأة الشعرية. كلما صار الانصات على اقتداره، وكلما أدى إلى ربط المواد الصوتية، يجعلها على إيقاع، هو، وفي نهايته، وقعها حيال بعضها البعض، وبهذا، تغدو منشأتها قصيدة. ما القصيدة؟

استفهام تقليدي نوعاً ما، لكن من نافل القول إنها من القصد والقصيد، وهما، في سياق خوض اللغة، يتوزعان هكذا: الأول هو سبيل هذا الخوض، تدبيره، اما الثاني، فهو بغيته، أو مرماه منه اذا صح التعبير. الشاعرات والشعراء يرمون من خوض اللغة إلى ممارسة بعينها، وهي الخروج منها، لا لكي يصمتوا -حتى لو كان لا بد من الصمت في بعض الأوقات أو في محصلاتها- بل، وبادئ ذي بدء، لكي يصنعوا ألسنتهم فيها. وهذا، لكي يغدوا، وبحسب تعليمية بروستية (نسبةً إلى بروست)، الأجانب فيها، بالتأكيد. لكن، أيضاً، لكي يبددوا انغلاقها، لكي تصير، وفي اثرهم، برّانية، وبذلك، تكون. الشعر طريق الكون في اللغة، كما انه طريق كون اللغة في الشعر. وكونها هذا سانح تعيين شرطه بأنها، وعنده، عند قصيدته، تقع على الحد بين وجودها وانعدامه. فهل هناك أجمل من قراءة قصيدة، تشير العربية فيها إلى أنها ليست كذلك، إلى أنها ليست عربية، وفي وضعها هذا، تكون هي العربية بعينها؟

على هذا النحو، العلاقة بين الشعر والصوت في عمومها هي أن الأول خوض للغة بما هي رجاء الثاني، خوض يؤدي إلى القصيدة، التي تعادل مخرج اللغة من اللغة. فعلياً، وقبل الحديث عن رسو الصوت في القصيدة، لا مناص من الرجوع إلى انصات الشاعرات والشعراء للغاتهم. إذ انهم، ومن مواضيعهم، ينصتون إلى موادها الصوتية، وانصاتهم هذا يشير إلى كونها تتكلم معهم. فالشعر -وهذا تعريف سياقي بالطبع- هو الانصات إلى لغة في اللغة. وهي قد تكون لغة من تاريخ اللغة، من جغرافيتها، أو ربما هي لغة هؤلاء الذين تحدثوا بهذه اللغة ذات مرة قبل أن تُؤخذ منهم، أو قبل أن يمنعوا عن ذلك، أو قبل أن يحاولوا، ولا يتمكنوا، أو قبل أن يرحلوا، أو قبل أن يموتوا. وها هم الشاعرات والشعراء يسمعون اصواتهم في اللغة، في قلبها، ويذهبون نحوهم، ينصتون إليهم. من هنا، اللغة بكلماتها هي مواد صوتية، الا انها ليست كذلك سوى لأنها تنطوي على أصوات هؤلاء التي تأتي من امكنة متعددة فيها، مشوشةً اياها. بالتالي، الشعر هو إخراج لغتهم من اللغة، كما أن القصيدة هي محل لغتهم في اللغة عينها.

ومع ربط الشاعرات والشعراء لتلك المواد الصوتية، ومع انصاتهم لتلك الاصوات، لا يجعلونها في قصائدهم سوى في إثر لقائهم معها من خلال أصواتهم هم. فالشاعرات والشعراء يسمعون أصواتاً كما أنهم يردّون عليها بأصوات: لقاء الأصوات بالأصوات، الذي يودي بها إلى التداخل، وإلى الالتباس على بعضها البعض. كل صوت في قصيدة، هو صوت ملتبس، بمعنى انه صوت شاعرتها أو شاعرها، لكنه، في الوقت ذاته، صوت من لغتها، كما أنه صوت يطلع بنفسه. وفي هذه الجهة بالتحديد، يقع إلقاء الشعر بما هو مزاولة لتلفظ كل الأصوات التي حصل لقاؤها في القصائد. فالشاعرات والشعراء، وحين يلقون هذه القصائد، هم، اولياً، يبدون ذلك اللقاء -الإلقاء كإبداء للقاء- وهذا من أجل جعل الأصوات التي التقوا بها تعبّر من خلال أصواتهم، لا لكي تكون على مسمع، إنما لكي تغادر موضعها القديم، أي اللغة، وتذهب الى موضع لا يقع فيها، الى موضع زوالها. فالحضور على مسمع من الإلقاء ليس حضوراً أمام هذه الأصوات، من أجل استقبالها، إنما أمام الملقي في أثناء محاولته إفلاته إياها بصوته.

أخلص الى تحديد التصويت القصائدي بهذا الشكل: هو إنصات الشاعرات والشعراء الى الأصوات في اللغة، اللقاء بها، وإلقائها. وبطريقة أخرى، هو حضور أصوات في القصائد، التباس هذه الاصوات مع أصوات الشاعرات والشعراء في المحل ذاته، ونهايةً، تلفظهم بها لكي تخرج من لغتها إلى مكان بعيد للغاية… إلى لغتها. التصويت هو صوت في القصيدة، التباس مع صوت سامعه، والقاء سامعه هذا له بمعنى رميه اليه ورميه له من لغته الى خارجه، أي في اللغة نفسها.

(المدن)