روجيه عوطة: على ماذا تقدر الكتابة؟

0

معروف ذلك السؤال، الذي طرحه اسبينوزا مرة: “على ماذا يقدر الجسد؟”. إلى هذا السؤال بالتحديد، تحيل الرواية التي وضعها نظير حمد بعنوان “الكلة الزرقاء”، وإحالتها إليه لا تعني أنها تدور حول الجسد، إنما تحضّ على الاستفهام عن المُستطاع. سؤال رواية حمد هو: على ماذا تقدر الكتابة؟ ولكي أحاول طرحه، أي الإجابة عليه، ألخّص حكايته قليلاً..

في بلدة لبنانية بعيدة، هجرها الغالب من رجالها، تاركين زوجاتهم وأطفالهم فيها، هناك أسرة مؤلفة من طفلين وأمّ وأب غائب. الابن البكر، وهو بطل الرواية، يدعى أمير، لا يذهب إلى المدرسة، لأن لا وجود لها في القرية، لكنه، في أثناء تمضية وقته في الصيد، يتعرّف على سامي، الذي يعرفه على حبيبه، سليمان، لكي يعينه على اكتساب القراءة والكتابة. نتيجة ذلك، يصير أمير أول متعلم في القرية، وهو يبدأ لاحقاً، وعلى الرغم من صغر سنه، بالتدريس في أول مدرسة، يقدم على فتحها واحد من المقيمين في الضيعة، طالباً من أمير ومن كاهن الرعية أن يعلما الأولاد فيها. هذه هي الحكاية بشكل عام للغاية، وعلى أساسها، يمكن الشروع في تناول قدرة الكتابة أو بالأحرى قدراتها. 

ربما، يصح القول بداية إن الكتابة، وفي صعيد متعلق بأمير نفسه، قد قدرت، وفي حين اكتسابه لها، على وَصله بعالم مختلف عن عالمه، بحيث أن المدرّس، الذي علمه، أي سليمان، بالإضافة الى صديقه سامي، هما ليسا من القرية، مثلما انهما يشكلان ثنائياً مثلياً. بالتالي، اكتسابه للكتابة، ومعها القراءة بالطبع، ارتبطت بانفتاحه ذاك، الذي قام بعلاقة اجتماعية جديدة، جمعت أمير بكل من سامي وسليمان. هذه العلاقة لا ترتكز على العائلة، ولا على الجيرة، إنما على التصادق. فسامي وسليمان هما صديقا أمير، وهذه الصداقة، صحيح أنها ظرف أو سياق اكتسابه الكتابة والقراءة. ولكن، في الوقت نفسه، اكتساب أمير للكتابة، وبراعته في هذا الاكتساب، جعل من تلك الصداقة صداقة متينة. فالكتابة، وبما هي اكتساب على الأقل، تعمد إلى تركيز الصداقة، وترسيخها، لتصير سبيل الى اللقاء والاجتماع.

وإن كانت الكتابة، في حين تعلمها، قد فتحت أمير على عالم وعلاقة مختلفين، فهي، وعند مزاولتها، قد بدت على أثر جديد. هذا الأثر تركته الكتابة في محيط أمير، أسرته، ثم جيرانه. فبعدما صارت أم أمير على دراية بكون ابنها صار يكتب، طلبت منه أن يضع رسالة إلى والده الغائب. كتب أمير إلى والده، وبهذا، أخرج أسرته عن صمتها حيال انقطاع أخباره عنها، وصاغ طلبها الذي يفيد بالتحاقها به في البرازيل.

قبل تعلم أمير الكتابة، ليس كما بعده على مستوى تواصل هذه الاسرة مع غائبها، إذ إن الكتابة مدتها بلغتها، وكلامها، اي بكل ما يسعى إلى تقريب ذلك الغائب. الأمر نفسه، ينسحب على الجيران، وبالتحديد، على الجارات، بحيث هن أيضاً، وكأم أمير، لهن غائبوهنّ، الذين انقطعت أخبارهم عنهن. لهذا، طلبن من أمير أن يكتب إلى أزواجهن، تماماً، كما فعل حين كتب الى والده. قدرة الكتابة، في هذه الجهة، تقتصر على تقريب الغائب، ولكن، هذا لا يعني أنها تواصلية فقط، بل أن أمير، وبفعل حبه لها، قد استطاع أن يجعل من كتابته الرسائل محاولة شعرية أيضاً.

فعلياً، هذه المحاولة تتعلق بأنه لم يكن يكتب رسائل عائلية، بل رسائل حبية، فتأتي جارة من جارات أمه، وتطلب منه يكتب لزوجها، ولكي يفعل ذلك، يستمع إليها تتحدث عنه. بالتالي، ينطلق في تدبيج رسالته، متطلعاً الى أن تحوي كل ما أبدته الجارة من حب لغائبها، كما لو أنه يريد من هذه الرسالة أن تشعر الغائب بمختلف الأشواق إليه. قدرة الكتابة، في هذا السياق، أنها تنقل ذلك الحب إلى الغائب، كما أنها، وبهذا، تستعيض عن الأجساد المتباعدة بالرسائل، التي، وأي كانت، تبدو ايروتيكية. ليس صدفة أن أمير، وفي حين كتابته رسالة تحت طلب إحدى الفتيات، ينتقل واياها إلى اكتشاف جسديهما معاً، إذ يكتشف أن الغائب، الذي تريد منه أن يتوجه اليه، ليس سواه. الكتابة، على هذا النحو، لا تنقل حبهما فقط، إنما هي تصنعه أيضاً، لا سيما حين تسنح لمن يكتب الرسالة إلى الغائب، أن يكتشف أنه هو هذا الغائب بعينه، فيحضر.

لكن كتابة أمير تتعدى المراسلة إلى التخييل. فها هو، وحين يجد أن أمه حزينة في نتيجة كون والده لم يرد على ما بعث اليه من رسائل، يبدأ بمراسلة أسرته، وبمساعدة صديقيه، على أساس أنه والده، وبهذا، يحل مكان الغائب لكي يبدد انقطاعه. ففجأة، تصل رسالة إلى الأسرة من الوالد، يعدهم فيها بأنه سيقدم على تسفيرهم إلى مهجره، إلى البرازيل. تفرح أم أمير، وتجتمع الجارات في منزلها، ويشرعن في الاحتفال بالرسالة، وبالثياب التي أرسلها الزوج إليها وإلى اولادهما. كل مفعول الرسالة هذه هو من تدبير أمير، الذي، وبكتابته، دفع الى الظنّ أن والده يكترث لها، ولأسرته. في هذه الناحية، الكتابة لا تقرّب الغائب، إنما تخلقه، تخلق إجابته، لتكون محض تخييل، بلا أن يعني هذا أنها من دون وطأة. بالطبع هذا التخييل، لا يصمد مطولاً، فأمير يدرك أن لا بد من إخبار أمه الحقيقة، وبهذا، يعود ويستخدم الكتابة نفسها من أجل ذلك، من دون أن يجعل أمه تعيسة مرة اخرى، بل وعلى العكس، تنطلق في عيش جديد. فالكتابة، صحيح انها تقدر على تقريب الغائب، على مراسلته، لكنها، أيضاً، تقدر على الاعانة في توديعه، أي على نسيانه.

*المدن