روجيه عوطة: الكتابة البسيطة

0

تكاد تكون الشكاية حول ما يسمى “الكتابة الصعبة” شبه دائمة، وهي غالباً ما تتأرجح بين النفور من كون ما تقوله عويص الوقوف على معناه، وبين السخرية من حالتها هذه كرد فعل دفاعي على عصيان المعنى، أي على أول الشروع في الدراية به. فعلياً، موضوع الشكاية هذه محدد في الكتابة إياها، وهو المصطلحات والمفاهيم، التي قد تشتمل عليها.
بالتالي، الشكاية هي شكاية من هذه الكتابة بوصفها رجاءً للإصطلاح والمفهمة، رجاءً لممارستهما، ما يحمل على السؤال عن مردها، والإشارة مباشرةً إلى أنه يتعلق بكونها ليست مألوفة. فالكتابة تلك “صعبة” لأنها ليس كغيرها، وفي النتيجة، يتحول السؤال إياه ليكون: ما هي هذه الكتابة التي، وفي ضوئها، تبدو الكتابة الأخرى “صعبة”، فتحمل على الشكاية منها؟

من الممكن الإجابة أنها الكتابة “السهلة”، إلا أنها، في الواقع، ليست كذلك، وهذا، لأن السهولة لا ترادف الإقلاع عن الإصطلاح والمفهمة، مثلما أنها لا ترادف نفي غيرها، على العكس، تبغيها. فالكتابة هذه ترتبط باللغة بالإنطلاق من علاقة بعينها، تستوي على تسهيلها، أي تدبيرها، وإرحابها، وهذا، لتزرع فيها، لتصنع منها، لتبدع بها مصلطحات ومفاهيم-الشعر والسرد من آلات ذلك. بالتالي، تبدو، وبهذه العلاقة مع اللغة، أنها ترمي إلى أن تصير “صعبة”.

من هنا، لا بد من وصف ثانٍ لتلك الكتابة، وهو يصح أن يكون “البسيطة”. فعلاقة الكتابة هذه مع اللغة يقوم ببسطها، أي، ومثلما علمتنا العربية، التسلط عليها بجعلها خالية من أي تضريس فيها، أكان مصلطحاً أو مفهوماً، يستلزم التوقف عليه، وهذا، بالإستناد إلى عملية تسطيحه بعد تفريغه. فهذه الكتابة فيها مصطلحات، ومفاهيم، لا شك، لكن كلاً منها مسوى بأرضه، بلغته، بفعل تجويفه، وتركه يسقط. كيف؟ عبر استخدامه كيفما اتفق، عبر إلغاء أي توتر له مع واقعه، عبر تعطيل وقعه، ليصير مجرد عبارة تعيسة تُقال لكي لا تقول. لقد كان هناك فيلسوف عظيم في القرن المنصرم يشبه المصطلحات والمفاهيم بالحجارة، التي ينتزعها المتظاهرون من الشارع، ليرموها على البوليس. وعلى هذا النحو، حين لا ترمى، بل تُستخدم لأي شيء آخر-توضع في غاليري، تُلقى في جامعة، تُحنط في مدرسة فنية إلخ. – تفقد كل قدرتها، تتعرض حرفياً للإغتيال.

في الواقع، حين تروج الكتابة البسيطة، حين تطغى، تجعل من أي كتابة مختلفة عنها “صعبة”، تجعل من كل علاقة مع اللغة، لا تعني البسط عليها، علاقة مرذولة. لكن، لماذا تروج هذه الكتابة، ولماذا تطغى؟ لأنها في خدمة نظام، يتيحها، مبعداً كل كتابة، فها هو السرد، بالإنطلاق منها، يغدو، وفي ذروته، إنتاج صورة للمكوث بها، وها هو الشعر، وإن لم تقصيه، يكون فيها بمثابة ذكرى موته. إنها كتابة تعود لنظام عدمي، نظام لا يكتب لأنه لا يؤمن بأن آخر له لكي يتوجه إليه، يتقرب منه. فهي، وحين تنم عنه، تكون وكأي شيء فيه، معدة لاستهلاكها فقط، بحيث، ولأنها تبسط اللغة، لأنها تزيل كل تضريس فيها، لا تعتمل في قرائها، لا تحضهم على أي عمل، إنما تجعلهم يعيدون انتاجها، ولا معنى لفعلهم هذا سوى أنهم يرجعونها منهم كأنهم لم يتلقوها.

فكتابة لا تعتمل، لا تحض على العمل، يعني أنها، وبحسب برنار ستيغلر، لا تفتح عيوناً وعوالم كانت مقفلة قبل وجودها، إنما تودي الى الانغلاق في نظامها، والبقاء فيه. لذلك، لا يمكن عدها ككتابة، إنما اطاحة بكل كتابة، أو بالأحرى هي تتقدم ككتابة، وبغيتها ان تبتلع أي كتابة تحاول ان تجعل اللغة رجاءً لبناء مصطلحات ومفاهيم، لبناء معرفة-رؤية (savoir-voir)، التي يشكل تدميرها من علامات البرتلة، وظروفها. فالبروليتارياريون هم الذين تدمرت هذه المعرفة لديهم، وهم الذين في وسع الكتابة، وحين تكون اعتمالية، ان تعينهم على بناء غيرها. لكن، وبما ان الكتابة الطاغية هي البسيطة، فما ان يذهبوا إلى كتاباتهم، حتى تبرز، وفي ضوئها، “صعبة”، وحتى تبدأ الشكاية منها، فتعترضها تلك العبارة المشهورة: “بلا تنظير”، أي “لا تروا”، أي، وبعبارة واحدة: لا مخرج من النظام. لكن، الخبر السار، في هذه الجهة، ان الكتابة البسيطة هي الكتابة-الاشاعة، فليست موجودة سوى لدحضها. 

المصدر: المدن

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here