روجيه عوطة: الفكر الفيروسي

0

واحد من أحلام جان بودريار، التي دأب على محاولة تدبيجها، كانت أن يتحول الفكر، وبحد ذاته، إلى فكر فيروسيِّ. إذ إن تحوله هذا بمثابة فرصته الأخيرة في عالمنا الرأسمالي، الذي كان قد استقر، وطعن في استقراره، على أساس أنه الواحد المطلق. بالتالي، على الفكر أن يقض مضجع هذا العالم، أن يكون، وكالفيروس، كناية عن آخره، الذي ينتشر فيه، معلناً له أنه ما عاد مقفلاً، أو ما عاد يدور على نفسه فحسب.


لكن حلم بودريار ليس سهلاً البتة، وهو، حتى لو تكلم عنه، أو بالأحرى سرد بعض مقاطعه على مسمع فيليب بوتيه، أو على مسمع فرنسوا إيفونيه، إلا أن معالمه بقيت، وأسوة بكل تجربة من قبيله (الحلم تجربة أيضاً)، مبهمة. وبالإنطلاق من إبهامه هذا، يصح إيضاح سمته الأولية، وهي أنه، بدايةً، على علاقة خاصة بالحقيقة الواقعية. فلا ينم عنها، ولا يرجع إليها، ولا يبغي أن يجد محله فيها، ولا يكون ضدها، أي أن هذه الحقيقة الواقعية ليست مجال إنتاجه، ولا مرجعه، ولا محطه، ولا نقيضه. وهذا، لسبب رئيسي، وهو كونها، وكمبدأ على الأقل، قد انتهت، قد تفجرت، قد صارت حطاماً، يوشك، وباستمرار، على زواله، ولا يزول.

على هذا النحو، الفكر الفيروسي يتعامل مع هذه الحقيقة الواقعية بطريقة أخرى، مفادها اللعب: هو خيال على صلة تقوم بالتوتر معها. والتوتر، هنا، يعني أنه لا يبغي أن يصيرها، أن يتحقق كواقعي، وفي الوقت نفسه، لا يبغي أن يقر بكونها أكثر من “خرافة خطيرة”. فينطلق من اثبات أنها استوت على كونها هذه الخرافة، بسبب التهامها ثم ضخها الصوري، والافتراضي، ومن بعد ذلك، يحاول-وهذه سمة من سمات الفكر الفيروسي-أن يكون أسرع منها، إلى ماذا؟ إلى الفراغ، أو الفراغات: الفراغ من المعنى، من الشكل إلخ. إلى كل ما تحاول تلك الخرافة أن تقبض عليه.

من الممكن القول إن الحقيقة الواقعية تقبض على هذا الفراغ لأنه إشارة إلى كون عالمها، أو بالأحرى نظامه، نظام الواحد المطلق، له آخر، وهذا، مهما تعددت محاولات إلغائه. على أن الفكر الفيروسي يسرع إلى الفراغ، يحرره من سجن الخرافة، لكي يعود فراغاً، وهذا، من دون أن يطلب منه أن يكون غير ذلك. تحرير الفراغ هو اسم آخر للإيهام، للتلغيز، للإثارة، للإفساد، لتلك العملية، التي دعا إليها بودريار في “الفكر الراديكالي” ذات مرة: “شفّروا، لا تفكوا الشيفرات. شغلوا خيالكم. افعلوا ما بوسع خيالكم كي تصنعوا حدثاً. حولوا الواضح إلى لغز، والبائن إلى مبهم، إلى غير مقروء كالحدث نفسه”.

وعلى هذا المنوال، الفكر الفيروسي لا يريد أن يطرح مقابل تلك الحقيقة الواقعية واحدة غيرها، إنما يريد أن يذيع فيها، بلا أن تقدر على التعرف على مصدره، ولا على مقصده، ولا على دلالته: يلخبط، يعطل، يطيح، يغري، أما، فعله الأهم، فهو أنه يتبدد من دون أدنى علم بمرد تبدده. فـ”الفكرة تضمحل بتبدد صامت، بتفرق متعارض مع أي إحتفال فكري. ليس مصير الفكرة أن تنفجر، بل، على العكس، أن تنطفئ في العالم، في ما بعد بيانها في العالم، وما بعد بيان العالم فيها”.

يصح الاعتقاد أن مجال هذا الفكر هو اللغة، التي تشتغل على منوال شعري، يعني على منوال حر، بحيث يطلق كل قدرتها الابداعية، قدرات الربط، والإبعاد، والاحالة، والاستعارة… لتبث  فرحاً في مكتوبها، ولو كان قوله بائساً. ربما، وفي هذه الجهة، يبدو ذلك الفكر، مجرد لعبة لغة، أي أنه ليس سوى تشكيل. وهذا ما لا ينفيه بودريار، لكنه، يعمد إلى تصويبه بالاشارة إلى أن كل مسألة الفكر هي في هذا التشكيل، الذي يجعله سياسياً. فـ”اللغة والكتابة يرتكزان أساساً على الإيهام، فهما إيهام المعنى الحيّ، وهما حسم تعاسة المعنى بفرح اللغة. وهذا الفعل سياسي، ومعبور بالسياسة، لأنه يتمم صاحبه، ذاك، الذي يكتب”.

ينتج الفكر، الذي حلم به بودريار، أفكاراً كالفيروسات، التي تنتشر، وتذيع، وتجعل عالمها، وحقيقته الواقعية، على اضطرابهما. لكن، الحلم، ولكي يبقى حلماً، ما عليه أن يتحقق، كذلك، هذه الأفكار، التي، وإن تحققت، تصير تعيسة، أو تكون، في الأصل، على وضعها هذا. غير أن مصيرها، وكأي فيروس، أن تضمحل فجأةً، قبل أن تعود في شكل جديد مرة أخرى، بلا أي تحديد لعلتها، إنما لآثارها فقط، مستكملةً فعاليتها. “على الفكر ان يصير فيروسياً في سرائه وضرائه”. 

المصدر: المدن

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here