ترجمة: موقع الجمهورية
في 29 حزيران (يونيو) 1920، وقف المبعوث السوري حبيب لطف الله أمام لجنة من النواب الفرنسيين في قصر لوكسمبورغ، ذلك المَعلَم الباروكي الواسع المُشيَّد في القرن السابع عشر، للمطالبة بدولة عربية مستقلة في الأراضي الخارجة عن سيطرة الامبراطورية العثمانية. كان توقيت ذلك متأخراً، وفرص نجاحه ضئيلة: فالجيش الفرنسي في بلاد الشام كان يحشد، فيما يُعتبر لبنان اليوم، تحضيراً للتوجه شرقاً وفرض نظام استعماري جديد في دمشق.
في البداية، ناشد لطف الله ضمائر النواب، قائلاً إن سوريا بلد متحضر وقادر على حكم نفسه. لكنه تحلّى أيضاً بالحكمة الكافية للتنويه إلى أن مصلحة فرنسا تكمن في قيام سوريا موحدة ومستقلة، بدلاً من مجموعة مفتتة وضعيفة، قائلاً إن «فرنسا، عبر بلقَنتها آسيا الصغرى وتأسيسها إمارات ودولاً صغيرة هناك، تفتح الطريق أمام الفوضى التي من شأنها خلق حالة حرب مزمنة».
لم ينجح ذلك في التأثير على النواب. وغزا الفرنسيون دمشق بعد أقل من شهر إثر معركة غير متكافئة، خاضها مجندون أفارقة بالدبابات والأسلحة الآلية ضد مجموعة غبراءَ من السوريين المسلّحين بالعصي والسيوف (صرخ أحد المقاتلين السوريين: «بإمكاننا هزيمة شرذمة من الزنوج»). وكان البريطانيون آنذاك قد بسطوا سيطرتهم على العراق حديثِ التأسيس، بعد قصف العراقيين حتى إخضاعهم.
حاول الأوروبيون إظهار أنفسهم كمُحرِّرين كونهم هزموا الإمبراطورية العثمانية التي حكمت الشرق الأوسط لقرون، لكنهم فرضوا حدوداً جديدة قيّدت بعض طرق التجارة القديمة والمقاطعات الإثنية في المنطقة، وأسَّسوا حكومات وطنية جديدة يحكمها أتباعهم. اتّسمت خطاباتهم حول السيادة العربية بالكذب، وكانت تهدف بالدرجة الأولى إلى استرضاء الرئيس الأميركي وودرو ولسون، بطل مرحلة الاستقلال الوطني. فحتى رئيس الوزراء البريطاني ديفيد لويد جورج أقرّ بأن نظام الانتداب الجديد، الذي أسسته عصبة الأمم، لم يكن أكثر من «بديل للإمبريالية القديمة».
الآن وبعد مرور قرن من الزمن، يمكن اعتبار تحذير لطف الله نبوءةً محققة، فالفوضى والحرب المديدة اللتان تحدَّثَ عنهما صارتا واقعاً يومياً في معظم أنحاء الشرق الأوسط. وليست جذور هذه المأساة المستمرة بسيطة، ولكن يمكن إرجاعها، جزئياً على الأقل، إلى إعادة رسم خريطة ما بعد الحرب في لندن وباريس وسان ريمو. فقد احتلت هذه الإملاءات الاستعمارية مكانة أسطورية سلبية لدى شعوب المنطقة على أنّها نوع من الخطيئة الأصلية، ويتم تعليم أطفال المدارس العربية في سن مبكرة عن شرّ المسؤول البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو، اللذين وضعا الحدود الجديدة في اتفاقية سرية عام 1916. حتى تنظيم داعش تبنّى هذه النظرة لتاريخ العرب: فبعد سيطرته على الموصل عام 2014، قام عناصره بإزالة السواتر الترابية التي تشكّل الحدود بين سوريا والعراق، وأعلن (بشكل مبكّر) عن «إنهائه اتفاقية سايكس-بيكو».
قد لا يعرف كثير من الغربيين الذين يَألَفون هذا التاريخ أن سوريا شهدت تجربة قصيرة من الاستقلال والديمقراطية، بين انهيار الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى عام 1918 وفرض الانتداب الفرنسي عام 1920. وكانت هذه الفترة التي لم تتجاوز عامين موضوعاً لكتاب إليزابيث طومسون؛ كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب، الذي فتح آفاقاً جديدة للنقاش حول جهود المؤتمر السوري العام، قصير العمر، في دمج الدستورية الليبرالية والإسلام. ويُعَدُّ التوليف بينهما -أي خلق أرضية إيديولوجية مشتركة- أمراً في غاية الأهمية، لأن غيابه أضرّ كثيراً بالبلاد العربية منذ ذلك الحين، إذ كانت الهوّة العميقة بين الإسلاميين والليبراليين، الموروثة جزئياً عن المرحلة الاستعمارية، والتي استغلّها طغاة المنطقة ببراعة، من بين أسباب فشل الربيع العربي عام 2011.
طومسون هي أستاذة تاريخ في الجامعة الأميركية، ولها كتابات واسعة حول تطور مفاهيم العدالة في مجتمعات الشرق الأوسط. في كتابها السابق؛ تعطّل العدالة: الكفاح من أجل حكومة دستورية في الشرق الأوسط (2013)، حلّلت عدداً من الحركات والشخصيات الإصلاحية في القرنين الأخيرين. فيما استهدفت في كتابها الجديد جمهوراً أعمّ، وبسّطت الملامح الأخلاقية لحكايتها إلى درجة كبيرة، حيث شبّهت أحد أفراد الإدارة الفرنسية بشخصية لاغو -الشيكسبيرية- وأمعنت في تصوير تعطّش السوريين للديمقراطية. لكنها نجحت في استحضار استثنائية هذه اللحظة المُجهضة للحكم الذاتي، وضياع إمكانية تحققها.
في عام 1918، كانت سوريا بلداً ممزقاً. نُهبت وحُرقت معالمها، ونحل سكانها من الجوع. لكنها كانت تعيش احتمالات جديدة مع إدراك الناس احتضار النظام العثماني، بتسلسلاته الهرمية الراسخة للباشا والأعيان والفلاحين. وقد وصف أحد المعاصرين دمشق بلغة تُذكِّرُ بوصف أورويل، بعد عقدين من ذلك، لبرشلونة الثائرة كمكان سقطت فيه «لغة الخضوع، حتى الرسمية منها» في زمن الجمهورية الإسبانية قصيرة العمر:
سادت الحرية بكافة مظاهرها -بما في ذلك حرية التجمع والتعبير والنشر- وكان ذلك مثاراً لحسد مناطق أخرى في سوريا ومصر. اختفت مظاهر تحية المسؤولين والأعيان وتبجيلهم، وشعر الناس بالاعتزاز والكرامة.
فيما خلا دمشق، لم يكن لسوريا هوية أو حدود واضحة. ويعتبر معظم القوميين العرب أن بلاد الشام، أو سوريا الكبرى، تضم اليوم كلّ لبنان أو جلّه وإسرائيل والأردن، إضافة إلى جزء من تركيا. إلا أن بعض الشخصيات المؤثرة في حلب كانت تضغط للاندماج بالجمهورية التركية حديثة التأسيس في الشمال. فيما كان معظم المسيحيين في جبل لبنان والعلويين في الشمال الغربي -كانوا مجموعة من المضطهدين الخائفين من الأغلبية السنية- يطالبون بالحماية الفرنسية. في حين كانت الحركة الصهيونية، في الجنوب تعيد رسم ديمغرافية فلسطين ومستقبلها.
لم يكن هناك أيضاً أي إيديولوجيا سياسية مُوحِّدة. فبحسب ما كتب المؤرخ والسياسي العراقي علي علاوي (وزير المالية العراقي حالياً) في سيرة حياة الملك فيصل الأول، كانت القومية العربية «فكرة قيدَ التطور، ينتمي مناصِروها إلى جميع أطياف الرأي السياسي». وقد برَّرَ بعضهم الانفصال عن العثمانيين بدوافع دينية، لا قومية، محاججين بأن الحكم التركي لم يكن إسلامياً كما ينبغي. وتَطلَّعَ كثيرون إلى خلافة جديدة تتمركز في مكة أو الموصل، بقيادة خليفة عربي.
كان المرشح الأقرب لهذا المنصب هو قائد الثورة العربية ضد العثمانيين، الرجل الذي أصبح فيما بعد الملك فيصل. كان فيصل بن حسين بن علي الهاشمي بطل حرب وابن شريف مكة، وقد أعطاه اجتماع هذه العوامل شرعية هائلة. رأى كثير من الرجال والنساء في فيصل شخصية ساحرة. وكتب أحد أعضاء الوفد الأميركي عنه عام 1919: «وجهه كان من أكثر الوجوه التي رأيتها جاذبية، وسيم بعينين صافيتين وداكنتي اللون». حتى القائد البريطاني الصارم، الجنرال إدموند ألنبي، لم يستطع مقاومة وصف يدَي فيصل بأنهما «رقيقتان كأيدي النساء»، رغم كونه «رجلاً صلباً راسخ القناعات».
أكثر من أُعجب بفيصل كان توماس إدوارد لورنس، الضابط والدبلوماسي البريطاني المؤسطَر، الذي قاتل إلى جانبه ضد العثمانيين وساعده في تولّي مكان الملك الأول على سوريا بعد نهاية الحرب. طومسون وعلّاوي صوّرا فيصل كرجل بمواهب عظيمة، وجد نفسه في موقف مأساوي بين غطرسة الأوروبيين ومطالبات السوريين بالاستقلال الكامل. سعى فيصل إلى حل وسط تلاشت فرصه مع انتهاء وجود فيصل في سوريا.
البطل الحقيقي في قصة طومسون كان ذا شخصية ساحرة أيضاً، لكنه ليس معروفاً كثيراً في الغرب. هو رشيد رضا، المُصلِحُ الإسلامي والمثقف الذي حلم بسوريا المستقلة قبل أعوام من سقوط الإمبراطورية العثمانية. ولد رضا في مدينة طرابلس الساحلية (اللبنانية حالياً) وانتقل إلى مصر الخاضعة لبريطانيا عام 1897 هرباً من الرقابة العثمانية ورغبةً في الدراسة على يد المفكر الإسلامي المؤثر محمد عبده. وفي السنة التالية أسس مجلة المنار الإصلاحية في القاهرة واشتهر عالمياً عبر الكتابة فيها. كان حذراً أثناء الحرب العالمية الأولى، فرغم كرهه للأتراك اعتبرَ الخلافة في اسطنبول مؤسسة محورية لجميع المسلمين، وكان قلقاً من أن يؤدي انتصار الحلفاء إلى تدخل الأوروبيين في البلاد العربية.
في تشرين الأول 1918 سمع رضا أن فيصل قد اقتحم دمشق بعد أن هزم (بمساعدة ملموسة من البريطانيين) الحامية العثمانية وفرقة الجنود الألمان المدمجة فيها. كان فيصل محاطاً بمجموعة من الأصدقاء الشبان والمستشارين المهللين له والحالمين منذ سنين بدولة عربية مستقلة. كانوا ينتمون إلى رابطة سرية تسمى حركة العربية الفتاة، تأسست في سنوات تقهقر العثمانيين، ويدركون أن البريطانيين والفرنسيين الذين تقاسموا النفوذ في بلاد الشام قبل عامين يشكلون عقبة، إلا أنهم شعروا بالحماس والتفاؤل، حالهم كحال رضا. كان الأخير عالقاً في القاهرة لأن البريطانيين لم يعطوه إذناً للسفر، لكنه كان متشوقاً للدولة السورية الجديدة وشرع بكتابة مسودة دستورها.
لم يصل رضا إلى دمشق حتى أواخر 1919. كان رجلاً مُكتنزاً وفي سن الـ54 تقريباً، وكان يقف بزيّه الديني وعمامته بين مساعدي فيصل الشبّان الذين يرتدون الملابس الأوروبية معظم الأحيان. أسهم رضا في جهود بناء الدولة، وخلال أشهر قليلة أصبح رئيس المؤتمر السوري العام. كان قد فكَّرَ بعمق، أكثر من أي شخص آخر، بالمشاكل التي قد يواجهها المؤتمر. ففي عام 1915، حين لم تكن نتيجة الحرب واضحة بعد، كان قد رسم ملامح «قانون عضوي» للأمة السورية المستقبلية يكرّس السيادة الشعبية ويفصل الدين عن الدولة.
بعد أربع سنوات أصبح رضا حلقة وصل هامة بين الليبراليين العلمانيين والمحافظين المتدينين في المؤتمر السوري العام. اختلف هذان الطرفان على عدد من المسائل الجوهرية، بما فيها وضع الإسلام سياسياً، والتوازن بين الملك والمؤتمر، وربما كان دور الأقليات الدينية والعرقية في البلاد أكثر هذه المسائل حساسية. كان في سوريا حينها مجتمعات واسعة من اليهود والدروز والمسيحيين والعلويين (كانوا ينضوون تحت مسمّى ’غير مسلمين‘ على نطاق واسع حينها). وشعرت أقليات كثيرة بالخوف على مصيرها لسبب وجيه: المجزرة الأرمنية كانت قد حدثت للتوّ على بعد بضع مئات من الأميال شمالاً.
كانت التسوية التي أشرف عليها رضا سابقة لعصرها بكثير. إذ حدَّدَ الدستورُ شرط تديّن ملك سوريا بالإسلامَ، لكنه لم يذكر شيئاً عن ديانة الشعب. وكان النواب على وشك إعطاء النساء حق الاقتراع، علماً أن النساء لم يحقّ لهن الانتخاب في فرنسا حينها. إلا أن مسألة السيادة كانت شائكة، وبرزت إلى الواجهة أثناء مجابهة بين رضا وفيصل في آذار 1920: إذ صوّتَ أعضاء المؤتمر السوري بحيث تكون الحكومة مسؤولة أمامهم هم، لا أمام الملك. أغضب ذلك فيصل الذي كان يعتبر نفسه صاحب الكلمة الفصل فيما خصّ المؤتمر وسوريا، وقال لرضا أثناء اجتماع في القصر: «أنا الذي أسَّستُ هذا المؤتمر، ولن أسمح له بتعطيل الحكومة»، فردَّ عليه رضا: «لا، المؤتمر هو من نصّبك ملكاً». تراجع فيصل في نهاية المطاف، وسلّمَ بالسلطة العليا للمؤتمر.
تصف طومسون هذا التبدّل بأنه «لحظة أسطورية في تاريخ سوريا»، إذ ترى أن رضا ورفاقه كانوا أبطالاً مغدورين، ويدعونا كتابها إلى تخيّل واقع بديل. فلولا الاحتلال الفرنسي، لكان السوريون قادرين ربما على المساهمة في تحديد حدودهم وقطع خطواتهم الأولى في رسم الهوية الوطنية. لولا ذلك لما تلطخت مؤسسات الدولة بوصمة الاستعمار، ولكانَ الفرقاء السياسيون -الليبراليون والإسلاميون خاصة- قادرين ربما على إيجاد أرضية مشتركة.
هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأنهم كانوا قادرين على فعل ذلك. ففي العقود الأخيرة للحكم العثماني كانت فكرة التعايش الجمعي موجودة، وفقاً للمؤرخ أسامة مقدسي الذي وصف ذلك بـ«الإطار المسكونيّ». وقد تجسَّدَ ذلك في الحزب العثماني للامركزية الإدارية، الذي جذب رشيد رضا وآخرين من العرب الطامحين بمزيد من الحرية والاستقلال. وشكّلت ثورة تركيا الفتاة عام 1908 -التي طرحت دستوراً أكثر ليبرالية وسمحت بازدهار التعددية السياسية، مصدر إلهام لرضا- وقد تفاءل كثيرٌ من المسيحيين بمشروعٍ أكثر مرونةً وتَسامُحاً من الإمبراطورية العثمانية. سادت هذه الأفكار بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، ومن المغري التفكير بأن رشيد رضا والملك فيصل قد بنيا سوياً سوريا التي تُوازن بين التدين والتسامح، والتنوع والنظام.
تتخفّى وجهة نظر سياسية في طيّات هذا الخيال الحالم، وتشير طومسون إليها صراحةً في مقدمتها. فهي تهدف، بحسب ما تكتب، إلى: نسف الأسطورة المضللة في الإعلام والسياسة، عبر تبيان أن السبب الحقيقي لوجود الديكتاتورية والتهديد الإسلامي المناهض لليبرالية يتجلّى في أحداث القرن الماضي، لا في السمات الأبدية لما يُدعى الثقافة الشرقية.
لقد فاجأني هذا المقطع، ذلك أنني التقيتُ كثيراً من الدبلوماسيين والجنود الغربيين أثناء عملي الصحفي في الشرق الأوسط خلال العقدين المنصرمين. ورغم أن بعضهم يحمل أفكاراً فظّة حول الثقافة العربية والإسلام، إلا أنني أشك في تأثير هذه الأفكار على السياسة الخارجية. قد يُمكن غض النظر عن بعض المبالغة في مقدمة موجهة إلى القراء الغربيين، فلا شكّ في أن الانتداب الفرنسي لعشرين عاماً قد شوّه الثقافة السياسية السورية، لكن الديمقراطية العربية واجهت الكثير من العقبات الأخرى، يعود بعضها إلى ستة قرون من الحكم التركي.
وحتى الإنجازات الديمقراطية للمؤتمر السوري قد تكون خادعة بعض الشيء، حيث أن رضا ورفاقه الذين كتبوا الدستور كانوا يستعرضون أمام جمهور بعينه. لقد آمنوا بأن وجود حكومة مستقلة على الطراز الغربي قد يُكسبهم تعاطفاً دولياً كافياً لإنهاء الاحتلال الفرنسي، وقد أثّرت هذه القناعة على كل ما فعلوه في تجربتهم الممتدة نحو 22 شهراً، والتي قضى فيصل جزءاً كبيراً منها وهو يستعطف رجال الدولة في باريس ولندن بينما كانت بلاده تتخبط.
لم يكن لديه الكثير من الخيارات. حيث تركّزت أولويات ويلسون ولويد جورج ووزير الخارجية الفرنسية جورج كليمنس في أوروبا، وكان ذلك كل ما استطاع فيصل فعله للفت انتباههم. كان يعرف تمام المعرفة أن كل كلمة وحركة منه تلعب دوراً؛ حتى خياره في الملابس كان يحمل معنى سياسياً محتملاً. فحين طالب بالاستقلال في مؤتمر باريس للسلام في شباط 1919 كان يرتدي الثوب والخنجر العربيَّين، لكنه بعد ذلك بمدة قصيرة كان يرتدي القميص والسروال والمعطف وهو يتجول في باريس. وتكتب طومسون أن تأكيده على ثقافته الأصلية «كان مغامرة. فرغم جذبه اهتمام الرأي العام بذلك، إلا أنه أثار استغراب الأوروبيين الذين رأوا فيه رجلاً قادماً من حكايات ألف ليلة وليلة من العصور الوسطى».
وربما بلغ هذا الجانب المسرحي من كفاح سوريا لأجل الاستقلال ذروته في حزيران 1919، مع وصول وفد أميركي بهدف تقييم قدرة سوريا على الحكم الذاتي. وأرسلت باريس لجنة كينغ كرين إلى الشرق الأوسط بإصرار من ويلسون الذي استهان بما يفضّله البريطانيون والفرنسيون، قائلاً إنه «لا يعرف بأي حق يمكن لفرنسا وبريطانيا إعطاء هذا البلد لأي أحد آخر». ثمّ عيّن صديقه تشارلز كرين، الذي سافر كثيراً إلى أجزاء الإمبراطورية المتفتتة والمفتون بالثقافة العربية، رئيساً للوفد ومتحدثاً باسمه إلى جانب البروفسور هنري كينغ.
اعتبر فيصل ومستشاروه في حركة الفتاة زيارة اللجنة اختباراً مصيرياً، فأقام مآدب عريضة لأعضائها. وفي الأيام التالية قدّمت وفود سورية عدّة عرائضَ ونداءات موقّعة تطالب بالاستقلال، قال فيها أحد الوفود إن سوريا قد تقبل حصراً انتداباً أميركياً لأن أميركا «تحب الإنسانية، ودخلت الحرب نيابة عن الأمم المقموعة ولا تنوي الاستعمار، وهي بلد غني جداً». فيما تضمنت عريضةٌ مقدمة من نساء مسلمات دحضاً شديداً للصورة النمطية الرائجة في أذهان الغرب:
لقد عانينا جميعاً نتيجة القهر… ولا نتوق للاستقلال فحسب، بل إلى الحق والفرصة في التطور الذي يضمن لنا مكاناً بين الدول المسؤولة في العالم.
تروي طومسون هذه المشاهد بتعاطف كبير، ويبدو أنها تؤمن بوجود أمر حقيقي وأصيل يهمس لنا عبر العقود. إلا أن مؤرخين آخرين كانوا أكثر تشككاً منها.
كان ثمة حملة متأنّية (وناجحة) للتأثير على رأي اللجنة، تضمنت توزيع مناشير في الشوارع تطلب من السوريين إظهار التوافق بين الطوائف خلال الزيارة. وكانت شخصيات النخبة القائمة على هذه الجهود تسعى إلى نيل قبول الجمهور الغربي لها، وربما أضعف ذلك ارتباطها ببقية السوريين. في كتاب الولاءات المنقسمة (1999)، الذي تضمَّنَ دراسة مُبهرة للسياسات المتعلقة بالجماهير في سوريا خلال حكم الملك فيصل، يكتب جيمس غلفن:
صمّمت النخب الوطنية التي حضّرت لوصول اللجنة مطالبها وحملاتها الدعائية بغرض تقديم صورة أمّة راقية وجاهزة للاستقلال أمام الجمهور الغربي. لكن خلال سعيها لتحويل سوريا إلى قرية «بوتيمكين» فشلت في دمج معظم السكان في مشروعها الوطني.
لم يكن للعمال والفلاحين والتجار السوريين مصلحة كبيرة في مشروع فيصل، وانضم بعضهم لاحقاً إلى حركة مناهضة الاستعمار التي كانت أكثر تديناً وأكثر عنفاً.
انتشر وعي ذاتي مشابه لذلك أثناء كتابة دستور سوريا في ربيع وصيف عام 1920. وكان ذلك إنجازاً استثنائياً أدركه الفرنسيون بوضوح: فبعد فرضهم الانتداب فعلوا كل ما بوسعهم للقضاء على ذكرى الدستور والوعد الديمقراطي الذي أوحى به (حاولت طومسون إيجاد نسخة أصلية منه ولكنها لم تتمكن من ذلك). إلا أن كتابة الدستور كانت، في جزء منها، تدريباً على العلاقات العامة بغرض إرسال رسالة إلى العالم.
بيد أن الرسالة لم تصل، فمع عودة لجنة كينغ كرين إلى الولايات المتحدة، كان ويلسون قد أصيب بجلطة لم يُشفَ منها أبداً. وذهب تقرير اللجنة، الذي أيد بشدّة قدرة سوريا على الحكم الذاتي، إلى الأرشيف ولم يُنشر إلا بعد عامين. أثار ما خلص إليه التقرير تعاطف كثير من الأميركيين، لكن الإرادة لم تتوفر للتورط في صراع شرق أوسطي، فالمستعمرون الفرنسيون مضوا في مشروعهم متجاهلين كل الاعتراضات.
حاول فيصل في اللحظة الأخيرة – خلافاً للمقاومة الشعبية – قبول الانتداب الفرنسي، أملاً في تفادي الحرب والحفاظ على حكومته بطريقة ما. فضبّاطه كانوا قد أطلعوه على افتقارهم للذخيرة والجنود المدربين، وعجزهم عن خوض معركةٍ قد لا تطول أكثر من دقائق. إلا أن رسالته إلى قيادة الجيش الفرنسي لم تصل إلا بعد خروج القوات من معسكراتها وانتشار الدعوة إلى الجهاد عبر مآذن دمشق. معركة ميسلون التي جرت في 24 تموز 1920 كانت مجزرة: إذ قُتل فيها أكثر من 1200 سوري، مقابل 24 فرنسياً.
سُمِحَ لفيصل بمغادرة البلاد بعد ذلك، وفي الأعوام التالية خطط أصدقاؤه البريطانيون لتنصيبه ملكاً على العراق. نجح ذلك بسلاسة. وبدعم من البنادق والطائرات البريطانية، جلس فيصل على عرشه الثاني، رغم الضرر الذي رافق الولادة العنيفة للبلاد. حين توفي فيصل عام 1933 كان عمره 48 عاماً فقط، لكنه بدا أكبر من ذلك بكثير.
لم تحترم الإدارة الاستعمارية الفرنسية التي خلفت حكومة فيصل في سوريا سيادة البلاد. وشرعت في شنّ حملة قذرة تهدف إلى تفرقة الطوائف فيما بينها، والفصل بين المدن والأرياف. ولعبت بشكل خاص على مخاوف المسيحيين والعلويين من التعصب الإسلامي. ولدى اندلاع ثورة في المناطق الدرزية عام 1925، سحقها الفرنسيون بعنف بقتلهم آلاف الثوار وتدميرهم جزءاً كبيراً من دمشق ومدن أخرى بنيران المدفعية.
وفقاً لطومسون، تجسّدت السياسة الاستعمارية الفرنسية في روبرت دي كايكس، الأرستقراطي المتلاعب وصاحب اللحية المدببة، الذي سخر من خصومه ووصفهم بـ«الويلسونيين الحمقى». كان صاحب شخصية بغيضة ومحببة في آن معاً، لكن التركيز عليه قد يؤدي إلى طمس أحداث أكبر في هذه القصة. لم ينتج سلوك فرنسا في سوريا عن تعطش للسيطرة بقدر ما نتج عن خطأ قاتل في التوقيت. كانت أوروبا منهكة من صدمتها: فالحرب كانت أكثر تدميراً من أي حدث اختبرته البشرية في تاريخها، إذ قُتل فيها نحو مليون بريطاني و1.7 مليون فرنسي. ولم يستطع القادة المجتمعون في باريس العودة إلى أرامل هذه الحرب دون تعويضات تتضمن شيئاً من التمجيد والتشريف لمن قُتلوا، حتى لو كان ذلك على شكل إقامة انتداب في سوريا. كان الفرنسيون يؤمنون أيضاً بأن تحقيق توازن بين الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية قد يؤمّن نوعاً من السلام، إذ كان الفشل في الحفاظ على التوازن بين إمبراطوريات أوروبا المتداخلة من أسباب اندلاع الحرب.
ورغم ذلك، لم يكن رأي الفرنسيين موحّداً بشأن سوريا. فكان كليمنس، كبير اليساريين الفرنسيين، معادياً للاستعمار، كحال معظم أعضاء الحزب الاشتراكي. إلا أن الغلبة كانت للقوميين المتطرفين، ولم يكن معظم الفرنسيين مهتمين بما يجري بسبب إنهاكهم بفعل الحرب. ولم يعرف إلا حفنة من الأوروبيين ما يكفي عن سوريا لإدراك شناعة ما تنطوي عليه عناوين الصحف. تعاطف مع فيصل ضابطان فرنسيان في سوريا على الأقل، هما إدوارد كوس وأنطوان تولا، وبدا أنهما أدركا أن فرض الحكم العسكري على سوريا سيؤدي إلى كارثة.
رغم أن طومسون لم تتكهّن بشأن ذلك، إلا أن مملكة فيصل ربما كانت ستتداعى حتى لو تركه الفرنسيون في منصبه. فالفقر كان يطحن سوريا، وكانت تعتمد على المساعدات البريطانية والفرنسية كليّاً. كان السوريون مقسمين طائفياً وطبقياً ومناطقياً وعرقياً، ليس فقط بسبب تلاعب الفرنسيين. إذ قاوم العديد من المسيحيين وجُلُّ العلويين حكم فيصل، وكانت فكرة الحكومة العلمانية محل نزاع واسع. حتى رضا أقرّ بأن معظم المسلمين السوريين لا يستسيغونها ولا يجدونها شرعية، قائلاً إنهم «سيستبدلونها بحكومة دينية في أول فرصة».
حتى رضا نفسه بدا أنه يشعر بذلك. ورغم توجهه الليبرالي فيما خصّ بعض المواضيع، إلا أنه آمن بحماس بأن العالم العربي بحاجة إلى خلافة، وهي الفكرة التي تبنّاها حسن البنّا، مؤسس حزب الإخوان المسلمين في مصر، والذي اعتبر رضا مُرشداً. لكن بعد أن حلّت حكومة أتاتورك الإمبراطوريةَ العثمانية صار رضا توّاقاً لوجود بديل، واتخذت أفكاره منحى أكثر محافظة. ولو امتنع الفرنسيون عن احتلال سوريا لكان دفع حكومتها باتجاه أكثر إسلاميّة.
إذا نحّينا الجانب الديني، فقد واجهت فكرة المواطنة المتساوية مقاومة شديدة من جانب النخبة البطريركية وزعماء الطوائف المرتابين. وقد استمرت هذه المواقف التقليدية -التي رسختها سياسة فرِّق تَسُدْ العثمانية- استمرت طويلاً بعد نيل سوريا استقلالها عام 1946 (كان الفرنسيون قد طُرِدوا فعلياً بعد هزيمة قوات فيشي الفرنسية على يد البريطانيين). وكتب عدنان الأتاسي، وهو أحد السياسيين السوريين المعروفين، عن استيائه بعد حضور جلسة افتتاحية للبرلمان السوري عام 1943 اتضح فيها حجم «الزعامات الشخصية» التي تتخذ الصدارة قبل القانون والدستور.
يبدو أن طومسون ترى أن الصراعات اللاحقة للحرب تعكس تشوهات استعمارية لا موروثاً لتقاليد أقدم، إذ تكتب أن عقدي الحكم الفرنسي «أحدثا تحولاً جذرياً في المشهد السياسي السوري»، وعبّدا الطريق للدولة الأمنية التي سيطرت على مفاصل البلد منذ عام 1960. هنا أيضاً أرى شيئاً من المبالغة في إصرارها على تجريم الفرنسيين. ذلك أن حكم الأجهزة الأمنية كان مما ورثته سوريا عن حكم الرئيس المصري جمال عبد الناصر، الذي بدأ في الخمسينيات ببناء نموذج أولي للديكتاتورية العربية تم تقليده على امتداد الشرق الأوسط. لم يكن كلُّ الإرث الفرنسي سيئاً، فالمؤسسات التعليمية والصناعية التي بنوها ساهمت في ازدهار البلاد خلال السنوات التالية للحرب العالمية الثانية، حيث نما الاقتصاد السوري بنسبة 6 إلى 8 بالمئة سنوياً. وظهرت مزارع القطن والحبوب الواسعة في المناطق الريفية الشمالية والشرقية، وأصبحت منطقة الجزيرة سلة الخبز الوطنية. وقدّمَ النظام البرلماني المصمم على الطراز الفرنسي، رغم كل عيوبه، قدراً من الحرية السياسية، وازدهرت الأحزاب السياسية والصحف.
يتحمل الفرنسيون مسؤولية كبيرة في تمكين أقلية مضطهدة ساهمت مخاوفها الطائفية في تشكيل سوريا المعاصرة، فخلال فترة حكمهم بدأت السلطات الاستعمارية، الخائفة من الأغلبية السنية، بتعبئة الأجهزة الأمنية بمجندين من الأقليات الدينية. سيطر الضباط العلويون في نهاية المطاف على الجيش، وفي عام 1970 قام أحدهم، وهو طيار اسمه حافظ الأسد، بتنصيب نفسه ديكتاتوراً. ابنه بشار الأسد اليوم هو رئيس سوريا التي صارت حطاماً بعد نحو عقد من الحرب الأهلية.
ورغم أن القتال توقف تقريباً، إلا أن المستقبل يبدو أكثر قتامة مما كان عليه قبل قرن. لقد تخلى الأسد عن جزء كبير من السيادة لصالح روسيا وإيران. وتحوّل الشمال الشرقي إلى صحراء ينعدم فيها القانون، ويتنازع عليها المتمردون الأكراد والميليشيات المدعومة تركياً والجهاديون. فيما دفعت العقوبات والانهيار الاقتصادي في لبنان -الذي يُعتبر بوابة سوريا إلى الأسواق والبنوك الغربية- الناس إلى حافة المجاعة. مدن كحلب، دُمّرت بعد سنين من القصف، لن يكون بناؤها ممكناً في المستقبل القريب. ربما كانت الأمور ستتخذ منحى آخر لو تُرِكَ السوريون ليحكموا أنفسهم قبل قرن من الزمن. من الصعب تخيل مشهد أكثر قتامة من هذا الذي يواجهونه اليوم.
*الجمهورية نت