مصطفى عباس
كاتب وصحفي سوري
أوراق 11
ملف أدب السجون
في آخر مشهد من رواية “سراب بري” يتعرض بطل العمل عامر للسَجْن بعد أن وصل إلى وطنه إثر اعتقال في ليبيا دام نحو عقد من الزمان، أكل فيه زهوة شبابه، ولولا ثورة فبراير التي اندلعت ضد الدكتاتور معمر القذافي لما أطلق سراحه. كان حريٌ بالدولة السورية الدفاع عن مواطنها عندما اعتقل في ليبيا، لا أن تنساه، وعندما يُطلق سراحه بدل أن تطبب جراحه وتربت على كتفه، كان مصيره الاعتقال ما أن وطئت أقدامه “الشام”.
وكأن الرواية تريد أن تقول لنا طالما أنك في بلاد العرب فأنت دائماً عرضة للاعتقال، لا قيمة لك أيها الإنسان مهما كانت تضحياتك، وقدرما بلغت إنجازاتك، فهذه الأنظمة تريد خدماً وعبيداً، لا تريد مواطنين صالحين يقومون بواجباتهم ويطالبون بحقوقهم.
رغم أن هذه الأنظمة العربية تتقاتل فيما بينها وتحيك الدسائس إحداها ضد الأخرى، لكنها ستتفق ضد هذا المواطن المسكين الطامح لكي يرى بلده مثل كل البلدان المتحضرة، لا مزرعة يملكها الحاكم بكل مافيها ويورثها لأبنائه.. حاكم لم يصل بالأساس للحكم بشكل شرعي، بل بانقلاب مدعوم من تحالفات دولية، وليس من الشعب المغلوب على أمره. لذلك لا تتوانى الأنظمة القمعية العربية عن التعاون الاستخباراتي فيما بينها في هذا المجال فقط، أما مجالات التعليم والصحة والاقتصاد، فهذه لا تعنيهم البتة.
الرواية التي صدرت عام 2015 للكاتب السوري عبد الرحمن مطر عن دار جداول للنشر والتوزيع والترجمة تسهب في تفاصيل تعرُّض الكاتب للاعتقال في السجون الليبية. وأنت تقرأ في التفاصيل لن تجد اختلافاً بين ما جرى هناك ويجري إلى اليوم في سجون نظام الأسد، فالنظامان قد قرآ من كتاب واحد، وأمنيوهم قد اتبعوا دورات في سلخ الجلد الآدمي بذات المعسكر الشرقي، لذلك من الطبيعي أن تكون النتائج متشابهة، إن لم تكن متطابقة.
يُعتقل عامر في ليبيا على خلفية نشاطه في العمل الصحفي والحقوقي والمطالبة بالديمقراطية، حيث كشف الكثير من تفاصيل مجزرة سجن أبو سليم، التي سقط فيها نحو ألف وثلاثمئة معتقل رأي سياسي عام 1996، هذه المجزرة تذكرنا بمجزرة سجن تدمر العسكري في سوريا، ألم نقل إنهم يقرؤون من كتاب واحد.
الاعتقال كان كي يكشف لهم عامر مصادره، ورغم أنه كان متساهلاً معهم وقدم لهم كل ماطلبوه، على أن يتم ترحيله دون كشف مصادره، أو هكذا وعدوه، ولكنهم لم يفوا بوعودهم، بل اعتقلوه في سجن أمني تعرض خلاله للكثير من أنواع التعذيب، وبعد أن انتهوا تم تحويله لسجن مدني في العاصمة طرابلس، وكان حكمه في محكمة الشعب هو السجن المؤبد!
عامر السجين السياسي تم زجه مع السجناء الجنائيين من القتلة واللصوص وتجار المخدرات ومتعاطيه، وهذا السلوك معروف في سوريا الأسد، حيث يرُمى بسجناء الرأي في فرع الجنائية، كنوع من إهانتهم، ومعاقبتهم على قولهم “لا” أمام نظام لا يريد إلا كلمة “نعم”.. حتى في هذه متشابهون، ألم نقل إنهم يقرؤون من كتاب واحد.
وأنت تقرأ طريقة التعامل والأحوال السيئة في السجن، الذي يفتقر لأدنى مقومات التعامل الإنساني، حيث تفيض المجاري بما فيها دائماً على المساجين، والأكل الوسخ المليء بالحشرات، ستتذكر دون شك ما قرأته في أدب السجون السورية عن تلك المسالخ البشرية، التي يسمونها ظلماً وعدواناً “سجوناً”
طريقة تعامل “الحاج” المسؤول الأمني الليبي الرفيع مع عامر تذكرنا بضباط أمن النظام، وأساليبهم المفضوحة بالتعاطف القائم على الكذب والخداع، والتعذيب الشديد تارة والتهديد بتعريض حياة الأهل للخطر تارة أخرى، في سبيل الحصول على المعلومات من المعتقل، وتقديمها لأسيادهم كرصيد يساهم على ترقيتهم في المناصب والرتب، حتى ولو كان ذلك قائماً على سلخ جلود البشر! فضلاً عن إجبار المساجين على التوقيع على تهم لا يعرفون عنها شيئاً، وبين هذا وذاك جيوش من المخبرين السريين، وكاتبي التقارير. ألم نقل إنهم يقرؤون من كتاب واحد.
في هذه الأنظمة اعمل ما تشاء واكسب أموالاً كثيرة من الفساد، فهذا ما يسعدهم، ولكن إياك أن تفكر بحقوقك السياسية فستتهم بـ “الإضرار بمصالح الدولة وإفشاء أسرار تتعلق بأمن الدولة”، وستصبح ثرثاراً، فـ ” الحاج ” قد ذكّر عامر بالكثير من السوريين الذين يعملون بليبيا في التجارة ويجنون أموالاً طائلة، دون أن يعترضهم أحد، ” لو أنه اشتغل بالتجارة أو أي شيئ آخر لكان أفضل له من الصحافة والسياسة”.
الرواية التي تمت كتابة فصولها في السجن المركزي (الجديدة الرئيس) الليبي وتسريبها صفحة تلو أخرى لزوجة الكاتب هي سيرة ذاتية لصاحبها توثق فصول معاناته في بلدين وبين نظامين، وإن تم تغيير الكثير من الأسماء الحقيقية في سجون تزولها لجان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان متواطئة مع الأنظمة القمعية، لذلك لا ينتج عن زياراتها أي تحسين في واقع السجون.
اثناء اندلاع الثورة في ليبيا وسقوط مناطق منها بيد الثوار، أذاعت قناة الجزيرة خبراً عن إفراغ السجن واقتياد نزلائه إلى جهة غير معلومة، وسط حرائق وإطلاق نار وقتلى، ” كان عامر يتابع الخبر ويلاحظ تضخيم الأحداث، وأحياناً عدم صحتها”.
وكنوع من تهدئة الناس أطلق ” عاشور” -وهي تسمية القذافي في الرواية- سراح المعتقلين، وطالبهم المسؤولون بالخروج في مسيرة شكر للقائد! هذا ما يحدث تماماً في سوريا الأسد، ولكن إطلاق السراح هذا كان مثار شك، لأنه قد يعاد اعتقال المساجين السياسيين، كما في سوريا، إذ يخرج السجين من فرع فيعتقله فرع آخر، ألم نقل إنهم يقرؤون من كتاب واحد!
بعد الافراج عنه سارع عامر إلى المطار كي يهرب إلى سجن كبير اسمه سوريا، حيث تم اعتقاله لفترة في السجن الصغير، قبل أن يطلق سراحه، فيما كانت رياح الربيع العربي قد وصلت إلى سوريا، وبالفعل تبدأ الرواية من مشهد قصف للمدينين يتولى كبره طيران النظام، في محاولة لإخافة الناس الطامحة للتغيير، في مشهدية تصور الأشلاء المتناثرة، والمدنيين الهائمين على وجوههم هرباً من القصف.
منذ البداية رفع شبيحة النظام شعار “الأسد أو نحرق البلد” وكان لهم ما أرادوا فقد دمروا البلد وربحوا معها الأسد على البيعة.. كرئيس أضحى ألعوبة بيد الروس والإيرانيين.
حال الدمار الكبير الذي لحق البشر والحجر متشابه في كل البلدان التي كانت تحكمها أنظمة حكم شمولية، سوءا منها الساقط كليبيا، أو المتداعي على وشك السقوط كسوريا، يؤكد لنا بأنهم جميعاً ساقطون، كل ما يستطيعون فعله هو تأخير توقيت هذا السقوط.