حسين جرود
شاعر وكاتب سوري، صدرت له مجموعة شعرية بعنوان “فلسفة القاع”.
مجلة أوراق- العدد 17-18
أوراق النقد
في روايته الأولى، الفائزة بجائزة حنا مينة للرواية 2019، يسرد مازن النفوري على لسان بطل الرواية -طالب جامعة، 20 عاماً، نازح مع عائلته إلى دمشق منذ سنوات، ويعمل على عربة فول- حكاية المدينة بعيون هذا الصبي الغريب، لنرى حال المدينة بعد سنوات الحرب، وقسوتها، وروحها التي لا تموت.
هذه الرواية التي تدور أحداثها سنة 2016، وتبدأ بصراخ الشيخ (صاحب بسطة الكتب) على جاره بائع الفول، لأن أصابع الزبائن الذين يتناولون الفول هي ذاتها التي تلوّث كتبه، ثم يرمي له علبة مناديل ورقية ليقدمها للزبائن ويهديه آخر كتاب تضرّر (1984 لجورج أورويل)، قبل أن يتوقع الشيخ دون سابق إنذار هطول المطر ويغادر… قد لا تزيد عن هذه الصورة البسيطة المعبرة.
«رحل الحجي ولكن كلماته لم ترحل… أخرجت كتابه الذي أعطاني إياه أمس من بين كتبي… كنت قد بدأت قراءته ليلة الأمس عازماً على إنهائه وإعادته حسب مبدأ الشهامة الذي عوّدنا عليه والدي… الكتاب كان مليئاً بالسواد والتشاؤم فالبطل يعيش في عالمٍ موازٍ غريب، واليأس هو سيد الموقف… انتظار الموت أو الأسوأ هو ما يشغل بال الشخصيات… هل تقصّد الحجي إعطائي هذا الكتاب؟… أم أن القدر هو ساق زبوناً لا يتحلّى بآداب اللباقة من شيء ليلطخ صفحات هذا الكتاب بالتحديد؟… أو هل حقاً كان الحجي كما يُشاع؟… (مخاوي)…!». (الرواية ص 38)
يتجنب الراوي تسمية الشخصيات، فنقرأ: الأم، العروس (الأخت الكبرى)، الأخت الصغيرة، العم، زوجة العم، الشيخ. وبعد توطد علاقته مع الشيخ تكثر الأسماء ولكنها تدور كلها في الفلك ذاته وتخضع للمنطق نفسه، فكما كان أفراد الأسرة قسمَين، الأول يضم الجميع تقريباً حيث الطيبة والمحبة والأسرة، والثاني يضم العم وحده بوصفه تاجراً من تجار الحرب. يضم القسم الأول –بعد ذلك- جماعة الشيخ حيث الطيبة والمحبة والأسرة، والقسم الثاني الزعيم وصبيانه.
يتخبط الراوي بين عزو (صديق الطفولة الذي أمَّن له عربة الفول ولكنه طلب أجرة شهرية مرتفعة تُقدَّم للزعيم من أجل الحماية)، والشيخ الذي تدور حوله شائعات كثيرة بأنه «مخاوي» أو مدعوم أو أحد الأولياء أو محتال يجمع حوله بعض المتسولين والعاهرات ويحوي بيته عدداً كبيراً من الأطفال يرسلهم في النهار للعمل ويستخدمهم في الليل لإشباع نزواته. إذ يطلب الشيخ من بائع الفول أن لا يدفع لعزو، وعندما يقرر المضي مع كلام الشيخ، تتغير حياته كلها.
الأولاد الكثر في منزل الشيخ، هؤلاء المشردون الذين عليهم العمل على إشارات المرور وبيع بعض البضائع البسيطة لتأمين قوتهم، لا يستطيعون الالتحاق بالمدرسة، رغم أن الشيخ أمن لهم البيت والعائلة. ومع انتقال بائع الفول للعمل مع الشيخ، يعطيه غرفة من منزله ليحولها إلى مدرسة مسائية.
إضافة إلى الأولاد المشردين، يعيش في البيت سكان كثر، يتغيرون كل عدة سنوات، إذ نرى أم مريم التي أنقذها الشيخ من مصير تعس بعد تخلي زوجها عنها، وابنتها مريم التي تدرس الفلسفة، ويوسف عازف العود المدرس في المعهد العالي للفنون المسرحية، وعبدو الأخرس الذي يعمل على عربة لنقل البضائع في سوق الحميدية، وآخرون… وتصف مريم ذلك بقولها: «كلنا هنا عائلة واحدة رغم عدم وجود صلة قرابة واضحة بيننا».
التدريس؛ مهنة الوالد المفقود، لها مع الراوي ذكريات حلوة ومرة، وأعطته لكونه طالب اللغة العربية فرصة عمل تفوق توقعاته، بعد أن أنهكته الحياة. وبعد أن يعرف الراوي من هو الشيخ، ويصبح جزءاً من عائلته، يرافقهم في نزهاتهم وأفراحهم وأحزانهم، ويحل له الشيخ مشكلاته مع الزعيم، يبقى السؤال قائماً: من أين أتى الشيخ؟ وأين كان قبل عشر سنوات قبل قدومه ليحوِّل هذا المنزل القديم إلى ما هو عليه؟
هنالك أمور لم يمهد لها الكاتب كفاية، كقرار الشيخ ترك أولاده وثروته ومشروع عمره (دار النشر)، ليختفي بعد موت زوجته، ويعود إلى هذا البيت الدمشقي القديم، ويتحول إلى أسطورة. وكذلك علاقة الراوي بدانة زميلته في الجامعة، فهذه العلاقة التي تتبع مزاجاً خاصاً من قبله، بين الإقبال والصد، تُنسى في نهاية الرواية، ولا يذكرها القسم الأخير أبداً.
قد يعود غياب الجرأة في تشريح المجتمع إلى كونها المحاولة الأولى للكاتب في فن الرواية الذي يدخله بحذر، ولكن ذلك لم يمنعه من تقديم صورة رمزية جميلة لحياة شريحة واسعة تعاني من النزوح والفقر والخذلان وخسارة أحد أفراد الأسرة، وتصوير علاقتهم بالمدينة التي تعذبهم دائماً وتسعدهم أحياناً.
إنها لحظة من عمر المدينة، امحت فيها وجوه الجميع، ولم يبق سوى هذا الحزن الطاغي، فقد غيّرت الحرب كل تفاصيل المدينة ولم تعد الحياة كما كانت أبداً، مثلاً: بدل أن تذهب عائلة الشيخ في النزهات إلى طريق المطار أو الربوة يذهبون إلى عقدة مرورية قريبة، حيث تفترش العائلات العشب الأخضر في مكان خالٍ من الأشجار.
في منزل الشيخ حول مائدة العشاء، وفي النزهات، وفي الطريق الطويل بين حارات دمشق الذي يسير به الراوي والشيخ عائدين من عند الزعيم، تدور أحاديث فلسفية كثيرة عن الله والحياة ولكنها ليست الهدف من الرواية، إذ تنتهي الرواية بموت مريم -التي تحمل اسم زوجة الشيخ، وتموت مثلها بقذيفة طائشة- كأن على بقية الشخصيات أن تمر بالاختبار الذي مر به الشيخ سابقاً لتفهم لغز هذا الرجل.
(الشيخ والفول، رواية، مازن النفوري، الهيئة العامة السورية للكتاب 2019، عدد الصفحات: 296).