أيمن أبو هاشم
محامي وكاتب فلسطيني سوري
أوراق 11
أوراق الدراسات
في عصر المعلومات والتكنولوجيا الرقمية، يُخيل للمرء أن سهولة انتشار المعرفة على النطاق الكوني، سيفتح عيون البشرية على مصادر ومحركات بحثية ضخمة، تساعد على انتقاء الأخبار الصحيحة من التسريبات الكاذبة، ومن التمييز الموضوعي بين روايات الحقيقية وضروب تحويرها أو تزييفها. لا يبدو أن الأمر قد سار على هذا النحو في أكثر الأحايين، رغم أن الطفرات الحداثية في وسائط الاتصال والسوشيال ميديا، كسرت إلى أقصى الحدود “بروكسيات” الحجب والمنع، التي طبعت الزمن التقليدي، في احتكار المعلومات والمعرفة، وأتاحت الوصول إلى كل ما يتم نشره وتداوله حول قضية معينة. ما يدعو إلى فهم الجدل المُثار بين مسار التقدم التقني الذي فتحته ثورة المعلومات من جهة، ونوعية المحتوى المنشور والمتداول في تلك الوسائط من جهة أخرى.
لكن هل أدت حرية المعلومات، التي تتدفق بغزارة مهولة على الشبكة العنكوبتة، إلى صناعة رأي عام حيال قضايا مركزية ومفصلية فارقة، يرتكز إلى محتوى دقيق وموضوعي، وإلى تصورات منطقية، وحقائق موثوقة..!؟
يحتاج الخوض في الإجابة عن هذا السؤال، إلى استدعاء مقاربات لا غنى عنها، حول التحولات التي طرأت على الرأي العام الأوروبي والغربي، حيال قضايا المنطقة العربية وتحولاتها الكبرى. بمعنى أن البحث عن الإجابة، وتقصي مدلولاتها الفكرية والسياسية والقيمية بالنسبة لقضايانا، يفترض الذهاب نحو معرفة السرديات المركزية التي تهيمن على اتجاهات الرأي العام الغربي، وإدراك ما اعتراها من تبدلات تؤكد أو تدحض الطروحات والمقولات، التي بُنيت عليها تلك السرديات في العصر الرقمي الجديد.
يتقاطع الحديث حول ذلك بوجهٍ ما، مع قراءات فكرية وأكاديمية في الأوساط الأمريكية والأوروبية، ترى أنّ مُنتجي صناعة المحتوى من الشركات العملاقة في حقل التكنولوجيا، باتوا هم السلطة العليا التي تصوغ الرأي العام العالمي، وليس القاري فحسب. لهذا ترتفع أصوات نقدية في تلك الأوساط، تُحذر من ثقافة الهيمنة على خيارات العقل الغربي نفسه، قبل اغتراب الآخر عن واقعه، بفعل إخضاع الطرفين لإخباريات ومرويات مُركّزة ومكثفة، تُقدَم بقوالب نفسية وبصرية جاذبة، تتخذ من اتساع وتنوع وسائط السوشيال ميديا، حقل اختبار للتأثير وإغواء الرأي العام، بما يحقق التوجهات الأساسية المُغذية للمحتوى، بالتوازي مع تقليص مساحات التزود بمعرفة موضوعية عن أحداث وقضايا معينة. ما يُكيف ممارسة الأفراد والجماعات لحرية الرأي والتعبير، وفق تصنيفات نمطية في نظرة المجتمعات الإنسانية لبعضها البعض.
يتضح نوع وحجم التأثير على المجتمعات الطرفية المُستهلكة للمنتج التكنوعولمي، بحكم فواتها التكنولوجي المزمن، وعجزها عن المنافسة في هذا الحقل الأثير، وعدم قدرتها أساساً على تنقية التدفق المعلوماتي، الذي تبثه سلطة المحتوى، وفق تعبير جيل دولوز.
تحيلنا الهوة السحيقة، بين محتوى سرديات العرب عن قضاياهم، وكيفية تلقف المجتمعات الغربية لها، إلى معضلتين جدلتين شائكتين:
أولهما: الالتباس الذي حافَ روايات الحقيقة التي تتناول القضايا العربية، سواء تلك المتعلقة بمسارات القضية الفلسطينية، أو بقضايا الثورات والانتفاضات العربية، والثورة السورية مقاربتها الصارخة. من أوجه ذاك الالتباس، اختلاف الرؤية حول الحل العادل للقضية الفلسطينية، بين مشايع سياسية فلسطينية متباينة ومُنقسمة على نفسها، خلخلت بدورها من ثوابت ومحددات الحقوق الفلسطينية، ومع انفتاح أبواب التطبيع الرسمي العربي مع الكيان الصهيوني، أضعف كل ذلك التشويش على المتن الأصلي للرواية الفلسطينية، من قوتها المبدئية حتى في أنظار القوى والمجتمعات العالمية، التي تساند كفاح شعبها.
بيدَ أن الصورة أكثر لبوساً فيما يتعلق برواية التحرر التي أطلقتها الثورات والانتفاضات العربية، والتي تعرضت إلى تشويه كبير من أطراف عربية وخارجية، سعت إلى تحوير رسائلها الوطنية والإنسانية، واستثمارها في روايات مُزيفة، ترى فيها صراعاً طائفياً أو مذهبياً أو أهلياً، ومشاريع أيديولوجية تشكل الجماعات الإسلامية المتطرفة مثالها الأبرز. اتخذت الثورة السورية المثال الفاقع على ترويج وتمرير تلك الانطباعات، على حساب طمس أحقية وعدالة الثورة السورية، التي تكاد أن تتوارى خلف بحور الدماء، وصراعات الدول، وعجز القوى السياسية المُعارضة الدفاع عنها.
الثانية: تلاقي أشكال الضعف والتآكل، التي نالت من أهمية ومكانة تلك القضايا العربية، مع محتوى روايات الرأي العام الغربي عنها، وما يشف عن الأخيرة من تمثّل لتوجهات السياسات الحثيثة، التي تنشط آلاف المنابر والمواقع الدعائية والإعلامية، المُدافعة عن المزاعم الإسرائيلية في الساحة الدولية، لتجذير الرواية الصهيونية لدى الرأي العام الغربي والعالمي. فيما تتحول قضايا الثورات والتحرر من الاستبداد السلطوي والفوات الحضاري، إلى مشكلات تتمحور حول مكافحة الإرهاب، والتخفف من عبء اللاجئين على الدول المُستقبِلة.
تكشف المعضلتان تلك، ليس فقط عن تشتت وتضارب محتويات الروايات العربية، إزاء قضايانا الوجودية والمصيرية العالقة. بل أيضاً عن إزاحة ما فيها من حقائق صنعتها نكبات وثورات وتضحيات لا حدود لها.
هنا يتعدى سوء الفهم في معرفة الواقع ما يطلق عليه بودريار “جحيم الاصطناع، الذي تحدده لعبة استبدال الحقائق بالأوهام”، إلى افتقاد آليات التمييز بين روايات الواقع المُحتجب، وبناء ما فوق الواقع الافتراضي على سرديات مصطنعة، تضع الحواجز غير المرئية بينهما، ترسانة تكنولوجية عملاقة، من وكلاء أصحاب اليد العليا في السياسة والاقتصاد والمال والاعلام. لا تكتفي بتحويل البشر من أصحاب الروايات المُهمشة، إلى مستهلكين لبضاعة تخدع العقول والأبصار، فيما لا تفوت الفرصة حتى على مجتمعاتها، كي يبتعدوا أكثر عن طريق الحقيقة، ويبقوا أسرى محتوى السرديات التي ابتلعوها عن قضايانا..