ما زالت بيوتُ أغلبيتنا مقسّمة في ما تعلّق بالطعام وأنشطته اليوميّة (التسوق، الإعداد، غسل الصحون..) تقسيماً جنسياً.
إننا لا نختلف كثيراً عن الإنسان البدائي الذي كان يخرج إلى الصيد في الوقت الذي كانت فيه شريكته تلازم البيت لإعداد الطعام.. هذا التقسيم الاجتماعيُّ، الذي يجد له البعضُ مبررات بالنظر إلى طبيعة التكوين الجسمانيِّ للرجل والمرأة، وإنْ صمد أمام التحولات الاجتماعية والاقتصادية، فإنه يبدو غير قادر على الصمود أمام متغيّر آخر هو العجز أو الشيخوخة. فحين يتقدم العمر بالزوجين، وتظهر عليهما مشاكلُ صحيّة، مثل صعوبة المشي وضعف البصر والنسيان.. يصبح ذلك التقسيمُ غير ممكن وغير مجدٍ. في هذه المرحلة من العمر، يصبح التسوق، الذي هو مهمة رجالية مألوفة، أمرا صعبا، ويصبحُ الوقوف أمام الفرن لساعات، الذي هو مهمة نسائية مألوفة، أمرا بالغ الصعوبة. فتتغيّر، عنوةً، الرغباتُ، ويتهاوى تقسيمُ المهام، ولا تحافظ البيوتُ على عاداتها..
وفي حين يبدأ بعض الأزواجِ رحلة المعاناة مع الأكل، ويلتجئ آخرون إلى الاعتماد على الطعام الجاهز الذي يُجلب من الخارجِ.. يعيد قسم ثالث ترتيبَ هذا الشأن اليوميِّ على نحو جديد، قوامُه التعاون والتشارك في كلّ الأنشطة التي تتصل بالطعام. فيسقط على خلفية عجزهما الجسدي ذلك التقسيمُ التقليدي، خوفا من إمكانية حدوث نقصٍ في الغذاء أو درءًا لمخاطر ما يُجلب من أطعمة جاهزة.. لا غرابة في هذه الحالةِ أنْ تخرج العجوز للتسّوق، وأنْ يقشر الزوج البطاطا.. فيحدث تبادلٌ للأدوار في رضا، وتتهاوى الصورةُ النمطية للتخصّص الجنسيِّ، فاسحة المجال لتجربة جديدة قد تكون مؤلمة، ولكن لا مهرب منها، بل لا يخلو من فائدةٍ وإن كانت متأخرة. ففي هذه التجربة الجديدةِ التي يفرضها العجزُ الجسديّ من جهة والحاجة إلى الأكلِ من جهة ثانية، ينشّطُ كلا الزوجين قدراتٍ فيه ظلّت مهملة، ويتعلم أشياء لم تسمح له العاداتُ، زمن الشباب والكهولة، بتعلّمها.. كأن تتعلم المرأة التفاوض مع الباعة، ويعرف الرجلُ مقدار الملح الذي يجب أن يضاف إلى الحساء.. هذه التجربة الجديدة يواجهها تحدّيان كبيران وشاقّان، جسدي يتمثّل في العجز الجسماني الذي يتفاقم مع الزمن، وثقافي يتمثّل في الصورة النمطية الراسخة التي تقاوم التفكك.. تحديّان يضاعفان من الألم، قد يهرب منهما بعض الأزواج إلى الاعتماد على خادمة مساعدة، أو إلى الاكتفاء بالجاهز من الأطعمة التي يوزعها صبية المطاعم على المنازل، وقد يختار آخرون المواجهة المؤلمة واللذيذة. في هذه المرحلة من العمر يتجلّى ذلك الصراع بين الرغبة والقدرة، وبين الجسديِّ والثقافيِّ على نحو واضح في طول المناقشات قبل إعداد الوجبة وبعدها، وفي ازدياد الرغبة عن الأكل، والتحسّر على شباب ولّى وصحّة خانت.. ومع ذلك، لا بديل عن خوض التجربة وتكييف الرغبة وقهر العادة.. لنتخيل أنّ هذا التشابك والتبادل كان هو العادة والتقليد اليوميّ منذ البداية، فهل كان العجوزان يتألمان في إعادة ترتيب الصورة؟ كلاّ. أمّا الجسدُ الذي يبدأ قوياً صحيحاً وينتهي ضعيفاً عاجزاً، فذلك قدرٌ لا تبديل فيه. إنّ كثيرا من آلامنا سببها الثقافة، غير أننا ما نفتأ نلقي المسؤولية، في عناد، على الطبيعة التي لم تمنع الرجل يوماً من أنْ يقشّر البطاطا أو أن يتذوق الحساء قبل أن يفرغ في الصحون، ولم تحل دون أن تفاوض المرأة بائع الخضار أو أن تعدّ ما تبقّى من مال.
*القبس