نقصد بالإسلام الدعوي شكل التدين لدى الدعاة والمتصوفة السوريين ممن لا يعتقدون بالعمل الديني السياسي، ويقصرون نشاطهم على الدعوة والوعظ والفتاوى وحث الناس على التمسك بتعاليم الدين الإسلامي السمحة. كما أن هذا الشكل من التدين يرفض أي شكل من أشكال التنظيم السياسي الديني على شاكلة تنظيم الإخوان المسلمين، أو الانخراط في تيارات الإسلام السياسي بمختلف أشكالها. ولكن لماذا يستفيد النظام السوري كثيراً من هذا الشكل من التدين، ولا سيما بعد اندلاع الثورة؟
يتوزع التدين الدعوي في سورية بين فئتين أساسيتين هما الدعاة والمتصوفة. الدعاة وهم فئة من علماء الدين الإسلامي تعمل على الدعوة عبر جمعيات ومنتديات ومحاضرات وأشرطة فيديو تدعو من خلالها المسلمين السوريين إلى الالتزام بالإسلام وتعاليمه عبر ” النصح” و” التذكير”، والتأكيد على أن يكون المسلم شخصاً مثالياَ وأخلاقياً، مثلما يكثرون من تخويف الناس من الآخرة وتهويل يوم الحساب. ويأتي في مقدمة هذا الفئة الشيوخ محمد راتب النابلسي، أحمد معاذ الخطيب، كريم راجح، فتحي الصافي ومحمد سرور وغيرهم.
أما الفئة الثانية من الإسلام الدعوي فهي فئة شيوخ الطرق الصوفية. وهؤلاء غالباً ما يتوارثون هذه الطرق عن آبائهم، ولكل منهم طريقته وأتباعه وتقاليده الخاصة، أما أهم الطرق الصوفية في سورية فهناك الطريقة الخزنوية في شمال سورية، بالإضافة إلى الطرق القادرية والنقشبدية والرفاعية والكلتاوية وغيرها.
طبعاً لا يغيب عن البال أن هذا التقسيم هو تقسيم مرن ويمكن في بعض الحالات أن نجد نماذج يمكن وضعها في أكثر من فئة. ومع ذلك هناك سمات وأولويات تحدد كل فئة. فعلى الرغم من أن ما يجمع بين الاثنين أنهما يدعوان الناس إلى الالتزام بالإسلام الصحيح، وكثيراً ما يستخدمون الطرق العاطفية في الدعوى ورواية القصص عن الأنبياء والصالحين لاستخلاص العبر، إلا أن لكل منهم أسلوبه الخاص الذي يتميز به. فالدعاة لديهم مشاريع فكرية متكاملة (للنهوض بالأمة) تعتمد على التربية والتضامن الاجتماعي، أما المتصوفة فيركزون على طلب الكرامات و(المدد) من الأولياء الصالحين.
أما مواقف هذا الإسلام الدعوي من الثورة السورية فيمكن تحديدها بثلاثة مواقف. العداء للثورة والوقوف لجانب النظام بشكل مطلق، أو الحياد وعدم تسجيل مواقف تذكر، أما الموقف الثالث فهو تأييد الثورة ورفض القمع ضد السوريين. الغريب في الأمر أن ما يجمع بين هؤلاء أكثر بكثير من الذي يفرق بينهم. فعلى الرغم من تباين مواقفهم من الثورة السورية إلا أن طريقة تعاطيهم مع السياسة وما يحدث في سورية تكاد تكون واحدة، ذلك أن الشأن السياسي وأمور الحكم وطريقة إدارة البلاد ليست من أولوياتهم، ولا تشكل حجر الزاوية في عملهم الدعوي وخطبهم الرنانة وفيديواتهم التي تنتشر انتشار النار في الهشيم. السياسة معطلة بشكل شبه كلّي، بمعنى أنها ليست هي السبب في المشاكل، وبالتالي ليست هي المفتاح للحلول أيضاً.
يضيّع هؤلاء المسلم السوري في متاهات أخلاقية ونفسية تجعله شبه منفصل عن واقعه. لتتحول وقائع من قبيل ” الاختلاط “، ” طريقة تحديد هلال شهر رمضان”، “عذاب القبر”،” أسباب نقصان الرزق”، ” الانفلات الأخلاقي بين أوساط الشباب”،” أخلاق المرأة المسلمة”،” كيفية التخلص من الوساوس”، ” جواز الاحتفال بعيد رأس السنة الميلادية ومعايدة المسيحيين”، الكرامات”، ” الرقى الشرعية”، والموضوع الجديد ” شروط الإقامة في غير بلاد المسلمين”.. إلخ، إلى قضايا تشغل ذهنه أكثر بكثير من قضايا الواقع السياسي السوري المعيش.
ويبدو أن حرص هؤلاء على إبعاد الناس عن السياسة المباشرة، وهو تقليد متوارث منذ العصور الوسطى من أجل البقاء ومسايرة الحكام، (علما أن هذا الإبعاد يتم في النهاية بطرق سياسية غير مباشرة) هو ما سمح للنظام السوري بالاستفادة منهم بطرق مختلفة، سيما أن إبعاد السوريين عن السياسة يعد من الأهداف الحيوية التي عمل النظام طويلاً عليها وأشاد لها السجون والفروع الأمنية سيئة الصيت. هذا يعني أن أهداف الإسلام الدعوي تشكل في النهاية جزءا من استراتيجية النظام على الرغم من أن لكل طرف اهتماماته المختلفة.
فالنظام يروق له كثيراً تفسير التديّن الدعوي لوضع المسلمين وتراجع أحوالهم. هذا التفسير الذي يعتبر المشكلة في الناس وليس في نظام الحكم، فالناس هم من لا يلتزم بتعاليم الدين الإسلامي، ويخالفون أخلاقه السمحة، ويقصّرون في واجباتهم الدينية، ويرتكبون الذنوب، ولا حل لهذا التراجع من دون عودة هؤلاء إلى الالتزام بتعاليم الدين الإسلامي من جديد.
هكذا يتداور هؤلاء على تقديم تفسيرات لتأخر أحوال المسلمين في سورية، وغيرها من البلاد، بالعودة إلى الفساد الأخلاقي أو التربوي أو عدم قدرة المسلم على التحكم بانفعالاته أو عدم دفعه للزكاة، أو تراجع صلة الأرحام بين المسلمين.. الخ. هكذا يكرر عبد الكريم بكار (داعية معارض للنظام السوري) في مقاربة لسؤال النهضة المعروف، لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟ يكرر القول” الجواب عن كل هذا يكمن في طريقة التربية في الأسرة”، ويفرد عشرات الكتب والخطب والمحاضرات لهذه الفكرة. أما خضر شحرور (داعية مؤيد للنظام) فيؤكد بما لا يقبل الشك أن ” الغضب سبب كل المشكلات التي تحدث للناس”، في حين يذهب مأمون رحمة، وهو أحد تلاميذ البوطي ومعروف بفتواه التي تُجيز الحج على جبل قاسيون، إلى أن هناك ” غزو جنسي” للأمة الإسلامية قادم من الغرب، أما أكثر حديث ينتشر بين هؤلاء فهو حديث ” ما نزل بلاء إلا بذنب ولا يرفع إلا بتوبة” على الرغم من أنه حديث غير صحيح. هكذا وبكل بساطة يخرج النظام الأسدي، بفساده وظلمه ونهبه المنظم للسوريين، من المشكلة مثل الشعرة من العجين.
النقطة الأخرى التي تروق أيضاً للنظام في الإسلام الدعوي هي تصورهم ” للهدف من الحياة ” من حيث هو هدف يقدم الحياة الآخرة على الحياة الدنيا ويجعل من الثانية مجرد استعداد للأولى. هكذا حسبة تسهّل على النظام كثيراً استيلاءه على الحياة الدنيا، وتجعل الناس يتهاونون كثيراً في حقوقهم طالما أن الدنيا كلها على بعضها مجرد محطة عبور. حتى أن المتصوفة يبالغون كثيراً في الزهد من دون معرفة أن تحويل جميع السوريين إلى زهّاد سيكون يوماً عظيماً بالنسبة للنظام السوري.
النظرية الثالثة من نظريات الإسلام الدعوي التي يستفيد منها النظام هي نظرية ” الخلاص”، لأن الخلاص عند الإسلام الدعوي هو خلاصٌ فردي، ذلك أن أعمال الشخص وعباداته هي التي تحدد وضعه في النهاية. وهذه النظرية لا تعول على العمل الجماعي، وبالتالي ليس هناك داعٍ لكي ينظم الناس نفسهم في أحزاب، ولا حتى أن يتعاطوا أي شكل من أشكال السياسة، ففعل الخير ودخول الجنة لا يحتاج إلى هكذا أمور.
ولعل هذا ما يفسر أن النظام الأسدي، وعلى الرغم من ادعائه للعلمانية كأيديولوجية عامة إلا أنه عمد إلى الإكثار من مؤسسات الإسلام الدعوي بشكل مصطنع وتحت إشراف المؤسسات الأمنية، حتى أنه يمكن القول إن غالبية مؤسسات الإسلام الدعوي، وبسبب رضا النظام عنها، وإفساحه المجال لمتنفذيها، دخلت عالم الفساد والمحسوبيات من أوسع أبوابه، وأن نفوذ بعض الدعاة والمتصوفة الموالين يكاد يوازي نفوذ ضباط القصر الجمهوري. (كان لدى أولاد أحمد كفتارو مكتب خاص لتخليص المعاملات التي تحتاج ” لوساطة”)
ما يمكن قوله هنا إن رجالات الإسلام الدعوي في سورية مطالبين بإعادة حساباتهم بشكل جذري، وتشجيع الناس على طلب حقوقهم من الحكام ولو بالقوة، ونبذ الفتاوى التي تنافق للأنظمة، والتخلي عن الجري وراء مصالحهم الشخصية والاستمتاع بالنجومية، وبكلمة أخرى تكوين نظرية جديده للسياسة وعلاقة الدين بها. وإلا سيظلون يخدمون النظام السوري، من حيث يدرون أو لا يدرون. وما القناة الدينية التي افتتحها النظام مع انطلاق الثورة، وعشرات المعاهد الدينية المنتشرة في المحافظات، والكليات الدينية التي انتشرت في دمشق، وإفساحه المجال للعدد كبير من المتصوفة حتى يستولوا على الجوامع، إلا إجراءات يراد منها الحصول على ما يمكن أن نسميه ” دعماً ناعماً ” للنظام.
الجديد في الأمر أن الموالين “العلمانيين” للنظام بدؤوا في الفترة الأخيرة يحسدون الطبقة الدينية على المكانة الرفيعة التي تحظى بها عند النظام، ويشتكون من تغول أدوار مديريات الأوقاف ودور الإفتاء واستيلائها على مليارات الدولارات، الأمر الذي جعل محمد الحوت (أحد أشهر المتصوفة في سورية) يقرر العودة إلى حضن الوطن، متجاهلاً المصير المجهول الذي لقيه العائدون إلى حضن الوطن في المسلسل السوري كونتاك.
المصدر: بروكار برس