سيظل القبض على لحظة انبلاج فعل الكتابة الشعرية، محفوفا بغموضه، حتى بالنسبة للشعراء الأساسيين، رغم الاهتمام الكبير الذي حظيت وتحظى به إشكالية هذا الفعل، سواء من قبل الفضوليين المتلصصين على حياة الشاعر، أو من قبل الكتابات التنظيرية الجادة والمختصة، فضلا عما يقدمه الشعراء أنفسهم من إضاءات تخص تجاربهم، التي تكون عادة في صيغة إشارات تعميمية وفضفاضة، تضاعف عمليا من تغميض دلالة الإشكال، وتغييمه.
من ذلك مثلا أن الشاعر، ومن منطلق حرصه على إضفاء ما تيسر من الهيبة على تجربته، يقوم بدمجها في ما يتعارف عليه بطقس الكتابة، حيث بات من المألوف أن يميل بالكلام صوب الأحوال الصوفية، دون أن تكون له بالضرورة أي صلة روحية أو معرفية بها، فالإحالة على التجربة الصوفية غدت بمثابة مسلمة مشتركة، يستند إليها كبار الشعراء وصغارهم، كلما دعت الضرورة إلى حديثهم عن الأسرار الكامنة في انبجاس القول الشعري. وفي اعتقادنا أن استجارة الشاعر بالمعجم الصوفي، يهدف أساسا إلى التسريع بوضع المتلقي مباشرة في قلب الهيبة الشعرية، التي تنصهر ذاته في برد وسلام نارها. كما تهدف إلى طي مسافات سوء الفهم الفاصلة بينهما، خاصة حينما يكون المتلقي غير مؤهل لاستيعاب أبعاد الحلول الشعري ودلالاته. تلك التي تنتاب الشاعر لحظة معاناته من مخاض الخلق. وهي مقايسة ومماثلة قد تكون موضوعية ومقنعة، في حدود اعتبارنا لها مجرد تمثيل مجازي، يستعير فيه الشاعر توصيفه لأحواله، من مكابدات الطقس الصوفي.
غير أن الاستجارة بالمرجعية الصوفية، تصبح موضوع تساؤل/إنكار، حينما يتجاوز الشاعر حدود توظيفها مجازيا، ليتقمص الذات الصوفية، إما على سبيل الادعاء والمزايدة، أو بتأثير من عامل الجهل. وفي اعتقادنا أن الاحتمالين معا واردان، خاصة حينما يتعلق الأمر بتجارب تفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات القول الشعري والفكري، حيث ما من شيء يحدث داخل هذا الادعاء، سوى البؤس التعبيري الممعن في ضحالته. والحال أن مسار التجربة الشعرية، بمفهومها العام والشامل، والمجرد من مرجعياته الصوفية المباشرة، يختلف جذريا عن مسار التجربة الصوفية، سواء كانت في ذاتها، أو تلك التي تتخذ هي أيضا من الشعر أداة جمالية للتواصل، باعتبار أن كلا من التجربتين «الشعرية، والصوفية الشعرية « تمتلك قصديتها الخاصة بها. وأستحضر في هذا السياق التجارب الصوفية الكبرى، من قبيل تجربة الحلاج، والنفري، وفريد الدين العطار، وجلال الدين الرومي، ومحيي الدين ابن عربي، والسهروردي، وأبي يزيد البسطامي، وغيرها من التجارب، التي تتعرض باستمرار إلى أشنع الانتهاكات الاستنساخية الممارسة عليها دون كلل يذكر، من قبل ديدان الكلام. فهذه التجارب تمتلك كيانها النظري والجمالي الخاص بها، والذي ساهمت في بلورته شروط تاريخية وثقافية وذاتية جد استثنائية، وغير قابلة مطلقا للاستنساخ وللتكرار، أو الاندراج في المقولة «النتشوية» المؤكدة على فكرة «العود الأبدي للشيء ذاته».
إنها الأعمال التي أتاحت الفرصة للتاريخ، كي يعبر بطلاقة، عز نظيرها، عن أقوى تمظهرات الجرأة الكامنة فيه، والمجسدة في ذلك العشق الجامح، الذي يمكن أن تمارسه الذات الخبيرة بأسرار إعادة ترتيب مكونات المشهد الديني، حيث سيكون من الصعب معها، الفصل بين إشراقات منتمية فقط للحضرة الشعرية، وأخرى منتمية إلى الحضرة الصوفية. فهما معا سليلتا رؤية قداسية ويقينية مشتركة. قوامها الانتشاء بخمرة الحلول في الذات الإلهية، والفوز بنعمة تجليها. كما أنهما معا، سليلتا اللغة الإشارية والتعبير الترميزي عن أسرار الباطن، التي لا يهتدي إليها سوى الواصل، الذي تكاملت لديه مقتضيات تعاليم الشريعة، بإشراقات الكشف، وحيث يتساكن كل من العقل والقلب، على محجة المصير البرزخي.
إن الشعر والتصوف، وبالنظر لانتمائهما المشترك إلى عمق الأزمنة القديمة، يحاولان كل بمنهجيته الخاصة، الاقتراب ما أمكن من حقيقة الوجود. وإذا كانت النزعة الصوفية بتوسلها لثوابت الشريعة، قد انتهت إلى تقديس وتجلية الحقيقة الواحدة التي لا معادل لها سوى ذاتها، فإن الشعر المتحرر من أي قناعة فكرية أو روحية مسبقة، استمر خلافا لذلك، في تقصي أثر الحقيقة ضمن لا نهائية تعددها وتنوعها. وفي حالة ما إذا نحن اعتبرنا أن سؤال البحث هو الخيط الناظم بينهما، إلا أنهما مع ذلك، لا يلبثا أن يفترقا ليستقل كل منهما بصيغته البحثية وغاياتها. ما يدعونا إلى تجديد إعادة النظر في إواليات طقس الكتابة الشعرية، ضمن قوانينها الخاصة بها، بدل نزوعها العشوائي إلى الحديث بلسان صوفي، لا تربطه أي صلة بطبيعتها.
ولعل أقرب السبل إلى ذلك، هو الثقل الترميزي والدلالي، الذي تحفل بهما مدونة المعجم الصوفي ككل، مقارنة مع المدونة الخاصة بهوية الشعر، قديما كان أو حديثا. وهي مقابلة تضعنا أمام مفارقة صارخة، ينحفر معها شرخ إجرائي بين المجالين، دون أن يحدث بالضرورة القطيعة المتوقعة بينهما. حيث سنلاحظ أن تلمس المريد لطريقه في أحراش التجربة الصوفية، يقتضي منه مجاهدة مزدوجة دقيقة وعميقة، قوامها الجمع بين الحد المعرفي والعرفاني، حيث أن الأمر يتعلق بحتمية تملك خريطة طريق، تتميز شعابها ومدارجها بكل مستويات التعقيد الدلالي والإشاري. ما يعني تحولها في نهاية المطاف إلى متاهة حقيقية، يكون أغلب المسافرين، أو المقيمين فيها، عرضة للضياع والفقد، حيث لا أمل في حلول، أو مشاهدة، أو وصال، عدا سراب الوهم الذي يستدرج كلا من السالك والواقف إلى خرائبه. ويكفي أن نتأمل بعض علامات السفر المعراجي/ المتاهي، التي ينثرها أمامنا الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، كي نتأكد من سمك وصلابة حائط الاستحالة، الذي ينتصب بيننا وبين أمل الوصول. والجدير بالذكر أن ”علامات/مصطلحات «الشيخ التي نستأنس بها في هذا السياق من قبيل – مقام السوا. الفهوانية. العيد. حجاب العزة. المطلع. ملك الملك. عالم الملكوت. عالم الملك. عالم البرزخ. أرين. اللب. لب اللب. اللسن. كلمة الحضرة. الحد القدم. الكرسي. العرش، التي ليست سوى غيض من فيض، تنيف مصطلحاته عن مئة وخمسين مصطلحا، يحتاج شرح كل واحد منها إلى ما لا يكفي من الصفحات، بفعل ما يمكن أن يطالها من تحليل ومن تأويل، فضلا عما لا يحصى من اللوامع المتوزعة على مظان مصنفاته. والغاية من استحضارنا لها، هو التأكيد على استحالة الإيفاء بالشروط المثالية المتوخاة من قداسة السفر الصوفي، وذلك بالنظر لتمنع دلالتها على الذوق البسيط، فضلا عن تمنع احتمال معاينة إشاراتها، حتى بالنسبة للراسخين في العلم، والملمين بأسس المعارف الذوقية، لما تتميز به من تجريدية مطلقة، ومن غموض لا قبل للرؤية التسطيحية باستكناه لطائفه، حيث يمكن اعتبار كل واحدة منها بمثابة مجرة دلالية، تغص بأسرار كواكبها ونجومها، لنكون مدعوين في نهاية المطاف إلى تجديد استغرابنا من كل تصريح شعري، يلح على موضعة حالته في قلب الطقس الصوفي، دون أن تكون له أي دراية جمالية أو عرفانية بعوالمه.
*القدس العربي