رشيد الخديري: عن كينونة الشعر وغائيته

0

تُفضي بنا شجون الكتابة وهُمومها إلى الحديث عن ماهيّة الشعر وغائيته. فهل بالإمكان أن نعرّف الشعر؟ هذا السؤال متاهة. ذلك أن الشعر نشاط يتنزّل في مدارات لا يطاولها العقل. ولا تدركها مقولات المنطق، فكيف نمسك، بواسطة مقولات عقلية لا بد من اعتمادها عند ضبط التعريفات، بما لا يطاولها العقل؟ يُشكل هذا السؤال، الإجابة المقنعة عن إشكالية القضية. إن تعريف الشعر غاية لا تدرك، لذلك نُلفي جملةً من التَّعاريف والرؤى والتّصورات، إلا أن هناك فجوات يصعب تداركها. صحيح، مع ذلك، أن المحاولات كثيرة متنوعة من ناحية، وقد تمكّن أصحابها من الإمساك ببعض وجوه الظاهرة، لكن الإحاطة بماهيتها تظل دائمًا مجرد مشروع يغري بالمحاولة ويستعصي على الفهم، وإذا جاز لنا رصد بعض تجلياته للاقتراب من ماهيته، أمكننا القول، إنه عملية توليد للكلام، رؤيا، تفجير اللغة، أفقٌ متواتر من الإجابات التي تَحْتملُ أسئلة أخرى، الشعر منذ الأزل نداءاتٌ قادمةٌ من الأقاصيّ. ثمَّة جمالياتٌ مُتَخَفِّيّة فيه، ولا تظهر إلا عندما يَبُوحُ الشاعر بكلِّ أسراره وفيوضاته وإشراقاته، هذه المكانة التي يَحْتَلُّهَا الشِّعر ليست وليدةَ اليوم، بل تاريخه السرِّي حافلُ بعبق البدايات، في تعبيرٍ مُضاعف عن ممكناته النَّصيّة والجمالية. يقول الناقد محمد الديهاجي: “الشعر منذ أن كان، أي منذ تاريخه السري، هو تجربة. والتجربة في الشعر، هي سياحة في المسافات المقاسة باللغة والتخييل. الشعر هو استبطان لما يُمكن من اللاممكن. هو شرود وانفلات من الوقتي، نكاية بالعارض والزائل، بله مثوى الوجود ومسكنه. ليس الشعر سوى ذاك الكيف الملبد بالسؤال الأنطولوجي، دون التكيف مع جوابه/ أجوبته، نكاية بالعرضي والوقتي الفاني. وإذن الشعر، في اعتقادي، باعتباره كينونة مضاعفة، هو التخييل صنوان، بينهما برزخ يقيمان عليه إقامة جوالة يبغيان…” ، وهو أيضًا، “جوهره تيه، بقدر ما هو مشروع لا مكتمل لا يتحدد بهدف غائي، تتوقف عنده حركة الشعرية، ومن ثم، فهو ضد الحقيقة التي تظهر كموجود يمارس إكراهاته على الكائن الجوهراني الشعري، إن اللاحقيقة في الشعر هي الوجود الأصلاني المنفتح، أو التجلي الأكثر تميزا في تعدديته. فهو دليل الحيوية الناطقة التي تعري إمكانات العالم التخييلية، التي تحدس بالظن، بقدرات الكائن الشعري التنبؤية. والشعر في إحدى إمكاناته واختياراته الكبرى مساءلة حيوية للوجود”، وبالرغم من كل المراجعات والنقاشات حول الفعل الشعريّ، فإنه ظلَّ عصيًا على القبض، فإن الزعم بمحاصرة الشعر والإعلان عن موته، مقابل الإعلاء من السرد، هو إعلان في غير محلِّه، خصوصًا أن الشعر ظل ولا يزال مادة لإثراء وتخصيب بقيّة الأجناس الأدبية، فالسرد لا يستطيع الاستغناء عن الشعر، ما الذي يجذبنا في نصٍّ سرديّ؟ من المؤكد، أن ما يجذبنا ويشدنا هو تلك اللغة الشعرية التي تنساب بين كل سردٍ وسردٍ، صحيح، أن للسرد عوالمه الخاصة، ممكناته ومقترحاته الدلالية والجمالية الخاصة، لكن، ليس بمقدوره أن يكون ذا قيمةٍ، ما لم يكن منغمسًا في دواة الشعر، بيد أن الكتابة الشعرية، تتوخى دائما إحداث المفارقة والدهشة والتوتر الصيروري والاتصال الذائب مع العالم ومعاني الأشياء، “والشعر حين يخوض غمار المساءلة، فإنه يتوخي توليد الرؤى الاستبصارية والاستشرافية، بدءًا من تفجير لغة الكائن الإنساني المهووس بالاستكشاف وبالنزعة التشكيكية التي تتخطى نزعة ديكارت العقلانية التي لا تعترف بالوجود إلا لما يتخطى مرحلة الشك، بمعنى أن الوجود مرتبط بالتفكير، لأن الكائن – في الكوجيطو- هو نتيجة عملية التفكير”، من هذه الزاوية، يصير الشعر منافيًا للعقلانية، بل يوثر الخيال والمساءلة والانبجاسية والإيحاء وتفجير ينابيع اللغة، ومن ثم، لا يقين في الشعر، ولا يقين في غابة المعنى، ولا يقين في الشاعر، ألم يكن إليوت محقا حين ردد: “إن بعض الشعر الذي شغفني هو شعر لم أفهمه من أول قراءة، وبعضه شعر لا أحسبني أفهمه حتى اليوم”، أجل، إن الشعر هو شغف قبل أن يكون أي شيءٍ آخر، شغف الكتابة والقراءة، وبطرق إثارة الدهشة في عيون القرَّاء واستثارة متخيَّلهم وحواسهم وحدوسهم من أجل ملء الفجوات بما يناسب، والواقع، أننا في عالمٍ عبثيّ، يصعب معه إمتاع القارئ وإقناعه في الوقت نفسه، إذ لا بد أوَّلًا من الاقتراب من الأفق الاحتماليّ، والتَّوقف بالنص في منطقة تماهٍ مع معاني الأشياء ومفارقات العالم والوجود، مما يسمح بتحرير النص من الزيف، والدخول به إلى معترك التضايف السريّ بين مكوناته.

إن روح النص الشعري هي ما تعطيه ديمومةً وصيرورة ومكاشفة وتناغم، والشعر بما ينطوي عليه الآن من التباسات ولغزيةٍ، لا يفتأ يُقدِّم نفسه للقرَّاء بصورة انشطارية متشظيّة، لا تعكس بالضرورة رهاناته وآفاقه ومقترحاته الجمالية والدلالية، لكن، الحتميّ في علاقة الشعريّ باللا شعريّ، هو مواصلة البحث عن حدود هذا التضايف بين المعنى واللامعنى، في أفق تحقيق متعة متولِّدة من جماليات المعنى ودفق الخيال، فـ”الشعر هو الرفيق الأكثر إخلاصًا للإنسان… ذلك الكائن العجيب الملغز، والذي لا يتوقف أبدًا عن قراءة نفسه. والحوار مع مكنوناتها بمعلومها ومجهولها”. 

حين هَجَسَ الشاعر كيتس ببيته الشهير (الجمال حقيقة، الحقيقة جمال) ، فهو كان يعلم أن المبدع بصفة عامة، والشاعر على الخصوص، لا يقول إلا حقيقة نفسه، هذه النفس المطوبة بالجمال والدهشة والهسيس، وهو في الوقت نفسه، نقد واضح للنظريات الكلاسيكية التي جعلت من الفن بصفة عامة محاكاة وتقليد للواقع، أو انعكاسًا له، قياسًا بالنزعة الجمالية التي تجعل لهذا الأدب امتداد جيني متراحب في أرخبيلات وأعماق أي قارئ، ولست ها هنا، أستجلب محاكمة كافكاوية للأذواق والتصورات والأهواء، أو بصدد إصدار حكم قيمي يشترك فيه الجميع، وإلا سنسقط في مطب الاعتباطية والتَّمركز، وإنما ما نَتَقَصَّدُهُ ها هنا، هو أن يكون المشترك الإنساني وسيلة لفهم قيم الجمال الأثيرة. ما نؤكد عليه، أن القارئ أضحى اليوم، مشاركًا في العمل الأدبي، يعمل على ملء تلك الفراغات الغامضة التي يتركها النص أو مبدعه. إن آليات التلقي اليوم في تطور مستمر، فهي تسير في اتَّجاه البحث عن قيمٍ طباقيّة للمبدع، وما يتركه من أثر تفجيري- توليدي في مجال الكتابة وأسرارها. في البدء، ثمة شعور بالانتشاء والدهشة، للاستحواذ البراغماتيّ على جمالية النَّصيات دون إلزامها في الكشف عن طرق انبنائها، وفي ذلك، هجسٌ بدالٍّ تذوقي/ انطباعي الذي يُشَكِّلُ المصدر الأوَّل للاستجابات النقدية.

(ضفة ثالثة)