رشا عمران: هذا الاستعلاء الممجوج

0

أقف عند النافذة في غرفة الفندق في الطابق الثامن عشر، وأشاهد البحر أمامي، وأرى النظافة والنظام وورشات العمل التي تريد الانتهاء قبل حلول المونديال. ألتقط صورة سيلفي، وأنشرها على صفحتي على “فيسبوك” وأكتب عليها: الصورة من الدوحة الآن. بعد قليل، يترك صديق فيسبوكي سوري (اسمه مستعار) تعليقا على الصورة فيه كثير من العنصرية والتبجّح والمزايدة على بلاد الخليج العربي، من ذلك النوع الذي اعتدنا عليه من بلاد المشرق، التي تنظر إلى الخليج وأهله نظرة فيها كثير من استعلاء يتكئ على ماض حضاري أفل منذ زمن، ولم يبق منه سوى ما يُذكر في كتب التاريخ أو ما تحتفظ به متاحف العالم.

أفكّر ببلاد الشام والعراق، بذلك التاريخ العريق الذي كان في تلك المنطقة، وأفكر بالشوفينية التي تصيبنا ونحن نعتزّ بماضي بلادنا، وننسى أن ما مر عليها من حضارات وحروب واحتلالات على مر الزمن جعل من اختلاط الأعراق فيها ما يجعل من التباهي بالعرق أمرا مضحكا وبالغ السذاجة. من منا يعرف الآن أصوله والأعراق التي ينتمي لها وشكّلت ماهيته الحالية؟ من منا يعرف الاختلاطات الجينية التي لديه، وإلى أية شعوب تعود أصوله الحقيقية؟ ثم هذا التباهي والاستعلاء على شعوب أخرى على ماذا يبنى؟ يباهي البشر بما ينجزونه الآن، بما يقدّمونه للبشرية، بما يضيفونه للزمن المقبل، وتباهي الحكومات بما تقدّمه لشعوبها، بما تتيحه لهم من حياة كريمة وأوطان صالحة للعيش الآن وغدا وبعد زمن طويل.

هل سألنا أنفسنا يوما ماذا أعطينا وماذا أعطي لنا؟ ألسنا نحن أنفسنا من دمّرنا حاضرَنا ودمّرنا معه الماضي والمستقبل؟ أليس الاستبداد والمجرمون والقتلة والفاسدون واللصوص ومهرّبو الآثار وتجّار الموت وهادمو المدن وحارقو الغابات وكارهو الجمال وكل من امتدّت يده لتسيء إلى حاضر بلداننا، أليسوا أبناء الشعوب التي تنظر إلى غيرها باستعلاء حضاري وهي مدمّرة ومنهكة ومفكّكة مجتمعيا وأخلاقيا وبيئيا؟! سوف يردّد بعضهم أن أيادي خارجية قد موّلت هذا الدمار، في إصرار متواصل على نظرية المؤامرة المعتادة. لا بأس، للدول، كل الدول، مصالحها التي تسعى إلى الحصول عليها بكل الطرق. ولكن إن لم تجد من هو مستعدّ لمساعدتها في أجنداتها لدى هذا الشعب أو ذاك، فهي لن تتمكّن من “التآمر”؛ أي مشتر سوف يعرض سعره مقابل سلعة ما. المشكلة ليست في المشتري، المشكلة هي في المستعدّ لبيع حاضر أوطان عريقة وماضيها ومستقبلها، من دون أن يرفّ له جفن واحد. بماذا نتفاخر إذاً، ولماذا هدا الاستعلاء؟ ونحن بعنا ونبيع ما تبقّى تحت يافطاتٍ ممجوجة أحيانا، وأحيانا بالغة الخطورة.

تميزت منطقتنا ذات يوم بحضاراتٍ مذهلة ما زالت آثارها قادرة على إدهاش العالم، ولنا أن نباهي بها حتما، لكن ليس بوصفنا ورثتها، فنحن لسنا كذلك، ولكن بوصفنا بشرا، وهي حضاراتٌ قامت لإغناء حياة البشر، هي حضاراتٌ تخصّ البشرية كلها، لا من يعيشون الآن في الأماكن التي ما زالت شاهدة على تلك الحضارات. هؤلاء، أو نحن، جزء من سلالات بشرية كاملة، تنتمي إلى كل الحضارات التي عرفتها البشرية، التباهي بالانتماء إلى إحداها مجرّد هراء شوفيني يدلّ على عقد النقص التي يشكلها حاضر مريض وفاشل، لسنا فيه سوى مستهلكين لما يبدعه آخرون، يضيفون يوميا إلى حضارات البشرية في العلم والتكنولوجيا والطب والفنون والعمران والترفيه والأدب والفلسفة والحريات على مختلف أنواعها. بينما نحن نغرق في جهلٍ ينتج تعصّبا يتعلق بتلابيب الماضي، بعد أن أصبح حاضرنا كارثيا بكل معنى الكلمة.

ليس عليك أن تحب هذا البلد أو ذاك، ويمكنك أن تنتقد سياساته ما شئت، لكن شرط أن تكون عادلا ومنصفا، شرط أن ترى الرفاهية التي يعيش فيها أهل هذا البلد، ومستوى دخولاتهم، ومستوى تعليمهم وأمانهم، ثم قارن ذلك كله بالبلد الذي تنتمي إليه، وأشر إلى الفروق المهولة بينهما، ودلّ على المسؤول عن هذا الخراب الذي يكاد يجعل بلدك/ بلدي مجرّد أطلال لم ينج منها حتى آثار الحضارة القديمة التي تتباهى بها، وانتقد مسبّب الخراب بالجرأة نفسها التي تنتقد فيها آخرين وتستعلي عليهم. لكن، عموما، من يمتلك جرأة المواجهة لا يمكن أن يكون عنصريا أو شوفينيا. العنصرية من صفات المهزومين، حياتيا وإنسانيا وأخلاقيا.

*العربي الجديد