ذات ليلة، في آخر سبعينيات القرن الماضي أيقظني والدي من النوم، وهو يمسك بيده شريط كاسيت، ويقول لي: “جايبلك هدية”. .. كان بيده أحد كاسيتات الشيخ إمام الذي كان والدي يعرف أنني أسمعه سرّا. كانت كاسيتاته ممنوعة التداول في سورية، وكذلك أغانيه ممنوعة من البث في الإذاعة طبعا، مثل قصائد أحمد فؤاد نجم، ذلك قبل أن يعرف النظام السوري كيف يستقطب الاثنين لاحقا، حيث أقام الشيخ عدّة حفلات في سورية في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وأقام نجم في منطقة السبع بحرات في دمشق، مدة، وكان منزله مقصدا للشباب اليساري السوري تلك الفترة. أما شريط الكاسيت الذي كان يحمله والدي في يده فقد أحضره إلى دمشق الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، فطلبه والدي لابنته “المراهقة” التي سوف تعتبره من أجمل الهدايا في حياتها. كانت إحدى أغاني الكاسيت “سايس حصانك”، وكنت أسمعها للمرّة الأولى في حياتي.
في تلك الفترة، كان الانتماء إلى اليسار يشبه الموضة، ليس فقط في عالمنا العربي، بل في كل العالم، اليسار الذي كان يعني لنا التمرّد على كل السلطات، العائلية والمجتمعية تحديدا، ففي بلادنا كان ثمن التمرّد على السلطة السياسية غاليا جدا، دفعه كثيرون من الشباب والشابات العرب سنين طويلة في المعتقلات، وصنوفا من التعذيب والإذلال كتبت عنها روايات عدة، سوف تبقى وثائق تاريخية تدين هذه الأنظمة، وربما سوف تساعد في تقديمها للعدالة الدولية، إذا ما تحققت هذه العدالة يوما. .. لم أكن يوما مستعدة لدفع ثمن باهظ لموقف سياسي، كنت وما زلت أحب حريتي، وأحب أن أكون متمرّدة شرط عدم دفع أثمان لا طاقة لي عليها. كان الاقتراب من اليسار، من دون الدخول في أي تنظيم، يحقق لي هذا.
كانت أغاني الشيخ إمام بمثابة مفتاح التعارف والصداقة تلك الفترة، إذ ما إن كان أحدنا يسمع دندنةً من أحد ما لأغنية للشيخ، حتى يصبح المدندن صديقا مقرّبا، فهو حتما “يساري تقدّمي”. ولكي يحفظ أغنية للشيخ هذا يعني أنه سمعها مرارا سرّا، وهذه كانت نقطة أخرى لصالحه (كثر من هؤلاء تحولوا مع الزمن إلى طائفيين ومستبدّين ومتحرشين ومعتدين على نسائهم). كان التيار يسحبنا معه من دون لحظة تفكير أو تحليل. وهذا عموما من مظاهر سن الشباب والمراهقة، الانجراف نحو “الموضة”، بما فيها السياسية، ما بالكم بالإغواء الذي يفعله التمرّد والتحدّي لمراهقين يعتقدون أنهم سوف يغيرون العالم؟ كان ذلك الإغواء جميلا، وساحرا، علي الاعتراف بذلك. ما زلت أتذكر معدل الأدرينالين وهو يعلو، حين كنا نجتمع لنستمع إلى كاسيت جديد للشيخ إمام في غرفة في مخيم اليرموك، كان يستأجرها أحد الأصدقاء، نستمع بصوت منخفض، خشية أن يكتشف أحد ما اجتماعنا السرّي.
ولطالما ارتبط الشيخ إمام في حياتنا مع شريكه أحمد فؤاد نجم، حتى أننا لم نكن ندرك أن أغنيات جميلة كثيرة غنّاها الشيخ لم تكن من كلمات نجم، بل لشعراء آخرين لم نكن نعرفهم في سورية، ولم نسمع بهم وقتها. عرفهم بعضنا لاحقا، بعد سنوات طويلة جدا، وهو أمرٌ مؤسفٌ حقا، إذ يضيع حق الشاعر المعنوي لصالح المغني والملحن. وفي حالة الشيخ إمام لصالح شريكه أحمد فؤاد نجم، الذي كان بالنسبة للغالبية الكاتب الوحيد لكل أغاني الشيخ التي حفظناها عن ظهر قلب، من دون أن نميز بين ما كتبه نجم وما كتبه آخرون.
قبل أيام، رحل في مصر الشاعر نجيب شهاب الدين، عن 77 عاما. وأكاد أجزم أن كثيرين من محبّي الشيخ إمام في سورية لم يسمعوا به، مع أنه (في رأيي) كتب للشيخ إمام أجمل أغانيه. وربما من المفارقة أن الأغنية التي كانت أيقونة الثورة المصرية في 2011 “يا مصر قومي وشدّي الحيل” هي لنجيب شهاب الدين، الذي كان ملازما منزله منذ مدة طويلة، بسبب اليأس والمرض، ما جعله مقلا في إنتاجه الشعري، حتى أنه لم يجمع قصائده في كتاب، مع أنها تعتبر استثناءً في القصيدة العامية المصرية، لما فيها من موسيقا وحساسية شعرية عالية. أما الأغنية الأجمل فهي “سايس حصانك، عالقنا وتعال” التي كتبها شهاب الدين خصيصا لصديقه إمام. وأظن أنها سوف تبقى من الأغاني الخالدة للشيخ، بسبب شعريتها العالية والاستثنائية..
(العربي الجديد)