رشا الأطرش: لكننا نقاوم..

0

بكاء الضحك.. هذا الذي خضناه جماعةً، طوال أيام، حتى إعلان فوز بشار الأسد في الانتخابات الرئاسية السورية بنسبة 95 في المئة. صُور وفوتوشوب وتعليقات، فيديوهات فجّة واقعية من مراكز الاقتراع، نتناقلها باعتبارها تنافس أعتى الكوميديات. لقد نُخرِت المسرحية الأسدية نخراً، وسُوّيت بالأرض. وعلى الأرض، انتصار المجرم باقٍ، الآن، وكذلك نحن، وكذلك قصص ضحاياه السوريين واللبنانيين والفلسطينيين.


بعض القهقهقة إحباط، ربما. يأس، قلة حيلة. لكن بعضها الكثير مقاومة أيضاً، وليس أكثر من الأدبيات التي فنّدت النكتة سلاحاً في وجه الاستبداد، منذ مصر عبدالناصر وسوريا حافظ الأسد، قبلهما وبعدهما.

ثمة من تجرحه، عن حق، النكتة الرئاسية السورية، العائدة موضتها بعد تظاهرات ودم، بعد تحرير بلاد ومدن، دمار وتشريد، بعد موتٍ مِليونيٍّ وإسقاط تماثيل الوحوش للتبول عليها. لكن النكتة السورية، كما اللبنانية، تقول إننا ما زلنا أحياء، وما زلنا نرفض، بقرار، أو لأنه المُتاح الوحيد الذي لا خيار لنا غيره. النكتة تفضح انسداد المجالات السياسية والثورية، وحتى التفاوضية، فيما تؤكد الحق وتثبّت أنه الطبيعي الذي لن ننساه في خضم الواقع الأبوكاليبتي. النكتة، لوحدها، في أحسن الأحوال، تقول إننا لم ننسَ، لكننا نؤجل ريثما نستطيع. وفي أسوأ الأحوال تقول: نحن عاجزون. لكنها، في الحالتين، تُبقي حالةً جوهريةً على قيد الحياة. حالات “لا” فردية، في بوتقة كبيرة. والحالات هذه، حينما تتداخل مع رفضيّات أخرى، تستحق أن تُسمّى مقاومة، وشعبية أيضاً.

قاومنا، ولو فقط حين كتبنا عن فلسطين بلا نقاط. قاومنا، لبنانيين وسوريين، فالتففنا على طوابير البنزين، فقر الدواء والغذاء، وتلاشي الطبابة والتعليم، من دون أن نتأقلم. من دون أن يصبح الاستثناء عادياً أو مقبولاً، وإن تكرّس في يومياتنا. نظّمنا نهاراتنا وليالينا على وقع الشح والعتمة وتقهقر قدراتنا الشرائية وضياع ودائعنا ومدخراتنا، من أجل تحصيل احتياجاتنا الأساسية التي قد لا نحصلها كاملة. ولم نُدجّن غضبنا. فإن فعلنا، ربحوا.

ما زلنا نجادل ونتناقش، وأحياناً نتعارك، افتراضياً وفي الشارع. القضايا العامة خبزنا المُنهِك المالِح، لكننا نعجنه بأيدينا.

وما زلنا نحتفظ بقدرتنا على الدهشة، أمام الفاسد والمجرم وقانون الموت السريري الذي نحفر له بأظافرنا منافذ ليتنفس، كل لا يستسلم ونستسلم لإماتته الرحيمة. نتقدم بالدعاوى على متحرشين ومصارف، على قتلة المرفأ والمتهجّمين علينا في بيوتنا مستقوين بحزبهم وسلاحهم،.. وذلك، رغم إدراكنا للعبة وتقنياتها القذرة. لكننا هيبة القانون ومؤسساته، وهُم لصوصه وسفّاحوه. نبقي المحاسبة المشلولة، على رمقها الأخير، ولو اضطررنا إلى تحنيطها، ريثما نستعيد قدرتنا على الاحتكام إليها. بزيارات المخافر وجلسات المحاكم قطرات تراكمية في مَصلها، غصباً عنها إن لزم الأمر. ونحمي، بكل قوتنا، امتياز أن نتمكن من اتخاذ مواقف أخلاقية في قضايا كل أطرافها بلا أخلاق. هذا كيس حنطتنا للسنوات العجاف.

بصُور أولادنا نقاوم، بتعاويذ ولُقى من ذكريات ما قبل الإفلاس والتداعي وكورونا. بالنصوص الذاتية ذات البَوح الصارخ، وباللانصوص. بأطلال الحياة التي عِشنا، أو كنا نظنّ ذلك. بكوميديا “الستكرز” السياسية في “واتساب”، والرسائل الصوتية المُسرَّعة، بانتهاك قدسية كل مقدّس، من رئيس جمهورية إلى رأس طائفة إلى قضاء يزودنا بمادته التهكمية الجاهزة.

قد يقول قائل إنها الهزيمة. لكن ماذا لو استطاع استمرارنا في لَحظها وكسر هالتها، كهزيمة، كحتمية نهائية، أن يحيلها إلى مصاف المؤقت، وإن طال؟ ماذا لو كانت هذه فرصتنا الأخيرة؟

*المدن