“إني اخترتك يا وطني”… من أسخف ما غنّى مارسيل خليفة، حتى بمعايير الرطانة، والأناشيد التي لا تشترط عُمقاً شِعرياً. ليس هذا رأياً في مجمل أعمال الشاعر الفلسطيني علي فودة. ولا الموضوع هو مارسيل خليفة كفنان. هي هذه الأغنية بالذات التي، حتى في سياقاتها التاريخية والعاطفية، تظل رصفَ كلام. كلام مجاني في الهيولى المسماة وطناً.
“إني اخترتك يا وطني حباً وطواعية، سراً وعلانية، فليتنكّر لي زمني، ما دُمتَ ستذكُرني”.
ليس اختياراً لوطن بمعنى حرية اختيار بقعة في الأرض الواسعة لتكون المُستقَرّ، ولينتمي إليها الفرد لأنه يجدها تشبهه وتحترمه وتعطيه الأمان والحقوق مقابل الواجبات، ويا حبذا لو كانت هي نفسها التي تحتضن ذكرياته وبيت جدّته. هذا، بالتأكيد، ليس ما رَمَت إليه مخيلة فودة – المُقاوم الفلسطيني خلال “حصار بيروت”، ولا ألحان خليفة – “اليساري الملتزم” حين غنّاها. هي إعادة اختيار ما هو مُختار سلفاً، بحُكم الولادة وشجرة العائلة، مع نفخ الوَهم في الإرادة، ومن دون أي شرح عن مصدر “الطواعية”، إلا إن كان.. نقيضاً للإكراه؟
والأكثر إضحاكاً: “سراً وعلانية”، فلماذا قد نختار ونكتم في قلوبنا، مثلاً؟ أو نتقصّد المُجاهرة طالما أن الاختيار الحتمي معروف مسبقاً لدى العدو والشقيق؟ لا تفسير سوى الإخلاص لقافية “حباً وطواعية”، وخيانة الانتماء والحب بتجريد لا-زَمَني لطالما برعت فيه الإيديولوجيات الشمولية…
ما علينا.. المهم أن هذه الأغنية تنهش الرأس كذئب جائع، عنوة، منذ انتشار الفيديو المسرّب لغالب أبو زينب. إذ “فضح” عضو المكتب السياسي لحزب الله سياسيين لبنانيين يُسرّون له بالودّ والتقدير لحسن نصرالله وحزبه، وأنهما يضطران لمهاجمة الحزب في العلن لضرورات “التمويل” ولإرضاء حلفاء عرب وأجانب…
“جئتُ في زمن الجَزْرِ، جئتُ في عز التعب، رشاش عنف وغضب.. وغضب وغضب”!
بقليل من التفكير، لا يبدو استدعاء الذهن للأغنية مُستغرباً.. مثلما أن مضمون كلام أبو زينب، وقرار “حزب الله” تسريب هذا الفيديو، ليسا خارج المنطق اللبناني العام، بصرف النظر عن دقّة الاتهامات، والدلالات البديهية للشخصيات التي اختار أن يفضحها. التسريبات باتت “سلاح المقاومة” الرديف للحزب، فهو ناجع من دون أن يُلزم القيادة بموقف رسمي. لكنه، في الوقت نفسه، يتوخى الردّ “علانية” على خطاب منتقديه، وإحراجهم من باب كشف “سرّهم” أمام جمهورهم وجماهير الخصوم… وغضب وغضب وغضب.
سوى أن هذه الـ”سراً وعلانية” تبدو منسجمة مع الواقع اللبناني لدرجة أنها تبدو أكثر وطنية من منقوشة الزعتر. يعرف اللبنانيون أن ما يقال في العلن يوازيه كلام كثير، مناقض أحياناً، في الغرف المغلقة. كما أن شرط الانتماء ليس مخروقاً، ذلك أن الوطن اللبناني، بالنسبة إلى كل فئة، هو الجماعة، والزعيم لا يشغله سوى الذود عن جماعته الطائفية أو المناطقية أو الحزبية، حمايةً أو تمويلاً، وكاستراتيجية لحفظ “النوع” مع تثبيت الزعامة.
“فليتنكّر لي زمني، ما دُمتَ ستذكرني”..
الزمن زمن الممانعة، و”حزب الله” في قُمرة القيادة.. الوطنية بطبيعة الحال. يوبّخ “المزاجيين” ومزدوجي الوجوه، يتنكّر ويتوعّد ويقول إنه ما عاد يحتملهم. لكنهم، حينما يغيرون، هم أنفسهم، مواقفهم، يهادنونه أو يستسلمون، يتلاشى التنكّر. يعود انسجام السرّ والعلانية، أي تناغم الوطني من داخله. والكل يكون، ههنا، قد اختار وطنه، حاجات جماعته، وديمومة مقعده السياسي أو حصة حزبه. لا خيار آخر متاحاً، بل الأرجح أن أحداً لا يريد خياراً آخر. فإن تراكبت “البازل” مع أوطان الآخرين.. خَيرٌ وبركة، حب وطواعية. وإن انفرطت، صعدت ثنائية السرّ والعلانية التي -أخيراً- نفهم لها وظيفة في “وطني الرائع يا وطني”، على ما تُكمِل الأغنية. وطني الذي يختزن من الأمل، بقدر ما تمتلك مفردة رائع من ذكاء وخيال وبَلاغة.
*المدن