إنها صحوة “الحريات والتنوع الثقافي” وقد تفشّت في صفوف الجيوش الإلكترونية لحزب الله والناشطين والإعلاميين المؤيدين. ممتاز، مبدئياً. فهذه ظاهرة يفترض أن تكون مفرحة إذ تتبلور في “بيئة حزب الولي الفقيه”. لولا أنها ليست سوى شقلبة ممسوخة لبروباغندا القوة وتقديس القادة وشيطنة الآخر والتحريض على الأذى والتصفيات الجسدية بكل راحة ضمير. ولولا أنها سلسلة من التداعي الحر “لأفكار” لا تشبه الحرية في شيء، بل هي السيل الذي أنتجته كبسة زر أمين عام حزب الله، حسن نصرالله، في كلمة له مؤخراً عن لبنان الحريات كهوية يحميها الحزب المسلّح دون سواه. وأكثر من ذلك، تتضخم حملة الحريات العجائبية هذه إلى مصاف الكاريكاتور، حينما تعيد إنتاج مصطلحات من قبيل “الفاشية” و”الغزوة” لوصف ما جرى مؤخراً في جناح “دار المودة” التي رفعت صورة/مجسّم قائد “فيلق القدس” الإيراني، قاسم سليماني، ضمن معرض بيروت للكتاب.
هذا ليس للقول بأن مناوئي حزب الله يجيدون سجال الحريات والتنوع، كل مرة. ولا أنهم، كل مرة، يفلحون في تفادي الشعبوية والتسطيح. والمؤكد أنهم ليسوا دائماً على حق. فهذه مُسلَّمة مسجّلة ملكيتها الفكرية لحزب “الحمدلله أننا دائماً على حق”. لكن أن يكون “الفاشي” هو الذي يمزق صورة، فيُضرب ويُداس بأرجُل متكاثرة،… وأن تُسمّى بالـ”غزوة” حركة يقوم بها شاب منفرد، بصرف النظر إن كانت موفقة أم لا… فهذا ما يدفع واحدنا إلى الإقرار بالقدرة الهائلة لأبناء وبنات “البيئة الإلهية” على استيعاب آخر صيحات الموضة في مضمار الدعاية السياسية والثقافية من دول البلطجة الإقليمية، أي صناعات “أبو علي” بوتين من ماركة مقارعة النازية في أوكرانيا. وذلك لإعادة إنتاجها بالنكهة المحلية التي سبق أن استدخلت، وهضمت، دليل عشاق آيات الله لإنتاج الحقيقة الوحيدة الممكنة على مقاس الإيديولوجيا المُسيَّدة. ولا تُنسى مَلَكة أخذ ما في الذات وإلصاقه في الخصم، وهذه موهبة وحِرفة لا يستطيعها أي كان. وبالتالي، يصبح تمزيق صورة سليماني، نتيجة طبيعية “للتحريض الإعلامي”. فإن لم يكن هذا هو السِّحر الخلاق، لمُسيّري هتاف “شيعة شيعة” على دراجات نارية أدمى راكبوها مراراً متظاهرين سلميّين من مواطنيهم اللبنانيين، وأحياناً من الطائفة الكريمة نفسها، في مختلف المناطق، فماذا يكون؟
تحت عنوان الدفاع عن الحريات، مُجِّد رفع صورة قائد عسكري إيراني. ليس أي رمز طائفي أو حزبي لبناني يمكن التعامل معه – أياً كانت جرائمه المفضوحة أو المكتومة – كيافطة من يافطات الانقسام اللبناني المَرَضيّ المعهود. بل الكلام عن جنرال عصاباتي باسيجي، اشتُهر بقيادة مليشيات إيرانية مع “حزب الله”، في عمليات حربية وأمنية في سوريا والعراق ولبنان، شابَتها (أقلّ القَول) ظلال جرائم الحرب والاغتيالات والانتهاكات ضد الإنسانية. وفوق هذا كله، “دار المودة” لبنانية، والصورة ليست في غلاف كتاب، بل هي ملصق بالحجم الطبيعي، فيها الكوفية الفلسطينية، ومعروضة كتحية، كمصدر إلهام… ربما مثلما رفعت دار رياض الريس صور مؤسِّسها الراحل الذي بدا مرتاحاً هكذا في مكانه.
ضمن الخطّ العريض هذا، يُبدع حزب الله وأنصاره في أدبيات حرياتية تحت وَسمَين مُعبّرَين هما #دواعش_14_آذار و#تعا_لقلك_كيف_بتكون_حرة، حَرفيَّتها: التأديب، مُشعلو الفتنة، سيأتي يوم وتجدون مَن يعلّمكم كيف تكون بيروت حرة من أمثالكم، الكفّ المقدس، عملاء أميركا وإسرائيل، إنهم يكرهوننا كشيعة، كفّ العباس يوعّيك، إدعسوهم، صوت كفّ البارحة أحلى من صوت فيروز…
أدبيات من يَحفظ من دون أن يفهم، تقول إن التنوع والتعدد يعني إفراد مساحة لأي وكل شيء، بلا غربلة ولا مَساطر. بالضبط مثلما يُعطى متحرشون مُدانون أو قَتَلة زوجاتهم، منبراً تلفزيونياً لإبداء “وجهة نظرهم”. الحافِظ دون الفاهِم، يقرر بأن أي معايير للفرز غير مطابقة للمقدّس من بشر وحجر وأشباح، هي بالضرورة انتهاك لحق الوجود والتعبير، ودحض للتعدد، ولو كانت معايير قانونية ودستورية، أخلاقية ووطنية متعارف عليها. المختلف معنا، ولو من دون تمزيق الصورة الأيقونة، إما عميل أو فاسد أو متطاول على الحريات، و… “تعا لقلك كيف بتكون حرة”.
وللإنصاف، لوحظ اقتراب الخطاب هذا من معايير الصواب السياسي الدارج هذه الأيام بكل الألوان. تماماً كما باتت، منذ فترة مشهودة، تُعاد صياغة مفاهيم التنميط والعنصرية والإقصاء، بما لا يجافي الخيال الإبداعي لهكذا استعارات حلال من الغرب “الكافر المتآمر”. فالجماعة، للأمانة، يتطورون، متابعون، وأولاد عصرهم وفذلكاته… لولا أن الطبعَ يغلب التطبّع. والسيدة التي زعمت أنها طُردت من معرض بيروت للكتاب “لأنها محجبة” سرعان ما تخونها النبرة الحقوقية للمظلومية الجندرية والتمييز على أساس المظهر والمعتقد، لتختم منشورها الفايسبوكي بأنها غادرت، لا لأنها خافت، “فنحن أمر واقع عليهم أن يتعاملوا معه”، لكن لأنها تعرف أنها ورفيقاتها المحجبات “ما منهون عند الشباب لو صار اعتداء علينا”. بكلام آخر، “الشباب” المقاومون، الذين تحلّ القوة في تذاكر هويتهم محلّ الكِنية، سيهشّمون أي مُعتدٍ افتراضي، أغلب الظن أنه لا وجود له في المعرض الذي لطالما شاركت فيه دور نشر إسلامية وتصدّرت مبيعاته كتبُ الفقه والشريعة والسِّيَر السنية والشيعية… والسيدة العاقلة اختارت ألا تكون عبئاً على حميّتهم وعضلاتهم.
وفوق ذلك، ينطلق الخطاب الحرياتي الجديد، من قلب الحدث. يصبّ في قالبه بأريحية مُسهّلة بإذن الله، ذاهباً بكثير من “الذكاء” والحُجج المدهشة بدرجة إقناعها، إلى المقارنة مع نشاطات جناح السفارة الأوكرانية وكُتبها وترجماتها الأدبية والتاريخية، إما لفضح “الكتب المروّجة للسياسات الأميركية والصهيونية” على رفوفها، أو للقول إن حماية التعدد لا تتجزأ! نعم، أي عقل سَوِيّ سيدرك كم هو مُفحِم هذا الكلام، لذلك نضع هنا نقطة نهاية لهذا النص.
*المدن