رشا الأطرش: بلد حسن نصرالله لم ينتج بطلاً

0

البطلة لبنانية والبطل سوري. المعادلة المكرّسة في الدراما التلفزيونية، والعكس لا يُدرَك. لعل الأسباب معروفة و”بديهية” بمنطق التسويق في البلدين وعموم العالم العربي. الممثلات اللبنانيات ممهورات بختم الجمال والجاذبية، والسوريون بـ”الجدعنة” و”الماتشو”. والصكّان “سيكسي”. وصفة مبيعات ناجحة كل مرة، بصرف النظر عن معايير “الكاستنغ” وتفاوتات الأداء، سواء كانت البطلة نادين نجيم، سيرين عبد النور، أو ريتا حايك… والبطل قصي خولي، باسل خياط، أو تيم حسن…

البطلة لبنانية، والبطل سوري. هي الوجه والقَوَام، وهو العضلات والبأس. هي الأنثى فائضة الأنوثة، وهو الذَّكَر “الدَّكَر”. الشخصية الدرامية تفصيل مقدور عليه. قوية، خانعة، انتهازية أم نبيلة أم ظالِمة، خيّرة، شريرة أم مُركّبة… لا فرق كبيراً. لحظة اختيار وجهَي الحدوتة، هي لحظة صناعة الفانتازيا الشعورية وصراعاتها. أما التفاصيل المعتبرة ذهبية، والتي تحتمل أن تُبنى عليها جندرة البطولة، فليس أقلّها خصائص اللهجتين، واحدة “مكسورة” ناعمة، والأخرى “جهورية”، مع تاريخ الصُور المعلّبة وتراكمات إنتاجات “البيئة الشامية”. وإن كان لا بد من تغيير، ففي البطل، خليجياً أو مصرياً بدلاً من السوري… وأُنثاه غالباً تبقى لبنانية، رصيدها الأهم هو حمولتها التاريخية من الأنوثة المحضة.

وفي قواعد اللعبة هذه ما يذكّر بغالبية المسلسلات (المصرية تحديداً) التي تناولت الحب العابر للطوائف، حيث المرأة هي المسيحية، والرجل هو المُسلم، وذلك لأن النهاية السعيدة، المريحة، تظل متاحة. فديانة الغالبية المسلمة تتيح زواج المسلم بامرأة “من أهل الكِتاب” وأن تبقى على دينها، وأولاده منها على دِينه. خيال معاكس لا يُباع. إذ أنه يستوجب من الرجل المسيحي اعتناق الإسلام، وإن لم يفعل، فاقترانهما شرعاً لا يجوز، وقد يسبب وجع رأس الكلّ في غنى عنه، دولةً وإنتاجاً تلفزيونياً وجمهوراً مسيحياً ومسلماً. وكذا البطلة اللبنانية، “نتائجها” مضمونة، تريح الرؤوس والعيون بمَلَكتها الأم – لبنانيتها التي لها أن تتوجها باجتهاداتها الشخصية، شكلاً ومضموناً، فتنافس بذلك لبنانيات أقل حظاً وحيلة. 

البطل اللبناني يبدو عصياً على الدعاية العربية المُربحة، ومثله البطلة السورية. كأنهما يفتقران حُكماً إلى المقوّمات التي تجعل صنّاع المسلسلات ومتلقّيها يأخذونهما على محمل الجدّ والإقناع، أو حتى الجاذبية، مهما كانت درجة وسامته وحلاوتها، ومهما كانا بارعَين كمُمَثلَين. صفات البطولة وأُطُرها هكذا: للرجل “سوريّته” وللمرأة “لبنانيتها”.

لعله لم يُحسم بعد ذلك الجدل في مقولة “الجمهور عاوز كده”. هل هي فعلاً اشتهاءات المتلقين والمتلقيات التي تُملي على صنّاع المسلسلات خيالاً معيناً و”مثالاً” للأحلام والتماهي؟ أم أن الأخيرين “يخلقون” هذا الخيال ويُطعمونه لوعي/لاوعي المُشاهدين والمُشاهدات بالملعقة؟… البيضة أم الدجاجة؟

أياً كانت الإجابات وتشعباتها، تبقى المحصلة نفسها: بطل سوري مع بطلة لبنانية، هذا هو النموذج، وقود العمل الطموح.

صناعة “الوهم” التلفزيوني المحبب، لا سيما في محور قصة حب شائكة (وهي غالباً كذلك)، ترتكز إلى “شخصيتَي” لبنان وسوريا، كبلدَين، كمجتمعَين.. والواضح أنهما شخصيتان مستقيتان من صورة “النظامَين” السياسيَين والثقافيَين، أكثر من صُور مواطنيهما، حتى المنمطة منها.

لبنان، في صورته التلفزيونية المُحتفى بها عربياً، مذيعات وفتيات إعلانات، حتى في التظاهرات، تلهث الكاميرات خلف “الصبايا” حاملات الأعلام والهاتفات ضد الطبقة الحاكمة. لبنان النظام الهشّ، الطبيعة الطرية، ومقدار من الحرية الشخصية مكفول بالسيستم الاجتماعي المتنوع، ولو رغماً عنه، ولو بالقِشرة. لبنان المحتاج دوماً إلى مساعدة، وصاية ما، رعاية إقليمية، عربية أو دولية. لبنان مهيض الجناح، “الجميل”، بطبيعته وسهراته، أسواقه وعصرنته ومازاته، الضارب بكليباته وموضته، المُراد المُستباح، والمكلوم غالباً بمَآسٍ لا تني تعيد إنتاج نفسها. هذه التوضيبة، مؤنثة، على ما يبدو. حضوره في برامج الترفيه معلوم، والأخبار في معظمها قلقلة وخفّة، إلى الحد القاتل أحياناً، تقرأها، أفضل ما تقرأها، أنيقات كفتيات المجلات، وتنقلها، أحسن ما تنقلها، مراسلات قد يخُضن الخطر، تحبّهن الكاميرا، ولا يَهَبن الاشتباك مع قوى الأرض والسياسيين في مؤتمراتهم الصحافية. رقيقات وجريئات، متخبّطات وراسِيات. أقرانهن الذكور ليسوا بنجوميتهن، على الأقل ليس في الميزان العربي. الكليشيه يكفي ويزيد. الحقيقة الكاملة، الواقع المعقّد والمتعدد، برجاله ونسائه، بفقره وزعرانته، بفوضاه وفساده واهترائه، لا يهم. يمكنه ألا يكون موجوداً إذ لا تعبأ به حكايات ما قبل النوم. لا مقصد هنا لمؤلف أو مُخرِج أو مُنتِج. في الصورة الشائعة ما يسند النمط. انتهى.

*المدن

وسوريا نظام حديدي، مهما كان في الواقع منخوراً ومرتهناً. لم تُسقطه ثورة ولا حرب السنوات العشر ولا حصار دولي. خارق، بمافياه الحاكمة التي لم تستطع العصابة اللبنانية استنساخ صورتها لنفسها، مهما تمنّتها، إذ علقت في عجزها. سوريا، كبطل، ليست اللاجئ، ولا الباقي في وطنه مسحوقاً، وإن أضيفت تلك الصفات لشخصيات درامية، كديكورات، ريش ملوّن لبهرجة عاطفية. ليست المعتقل المعذّب حتى الموت، ولا المقصوف بالبراميل، ولا المواطن المحكوم -معارضاً كان أو موالياً- بالخوف والفروع الأمنية، بالاستشفاء المتعذّر والمدرسة المتهالكة والضائقة الاقتصادية. بل سوريا الشّدة والحزم، ولو بطشاً واستبداداً. الشبيح، متجاوز القانون، وربما حتى الثائر المتجرّئ لكن المسحوب من سياقاته. الذكورة المتلفزة تكتمل بالقوة الناجزة، والحبكة تتكفّل بالتشذيب: جرعة أخلاق هنا، ومسحة حنان هناك، دمعة عزيزة أو خطر جائر.

ثم.. مَن المعروف بالهيمنة على مَن؟ ومَن الشهير بالانصياع إلى مَن؟ العلاقات اللبنانية-السورية تقع أيضاً في الميزان التقليدي للسالِب والموجِب.. الفاعل، والمفعول به. وتاريخياً، هي قصة حب ومقت، تسلّط وخضوع، اتصال ووِصال، اشتباك وتضادّ وتكامُل. “شعب واحد في بلدين”، و”وحدة المسار والمصير”… شعارات النظام الأسدي أُنزلت في الشارع، تم تحديها، لكنها لم تنتفِ. كقوة ذَكَرية في منطق الذكورية.. فيما الثوراتُ جميلات في مأزق، حالمات، وأحياناً “ناشزات”.

ويبقى السؤال: لماذا لم يستطع بلد فيه حسن نصرالله، والمليشيا الأقوى في المنطقة، تغيير “وجهه”، وإنتاج بطل لبناني للدراما السورية-اللبنانية؟