في حملة #اعطوا_لبنان_فرصة، لا تُخفى الجهة المُخاطَبة. المجلس الاقتصادي الاجتماعي، بالشراكة مع جريدة “النهار” وعدد من المشاهير الذين يظهرون في فيديو الحملة، يتوجّه إلى الرؤساء، الحكومة، البرلمان، الزعماء، الأحزاب،.. الطبقة الحاكمة برمّتها. وإذ قرر أخيراً أن يوبّخها، فقد فعل ذلك بحَثّها على إجازة من الصراعات الداخلية، ومن السياسات والخُطب التي توتّر علاقة لبنان بالعرب والعالم.
نُحسّن الظن أولاً ونقول أنه حتى حينما يُقال في الفيديو: “ما بقى دارجة الاشتباكات.. ما بقى دارجة المظاهرات”، فالمُخاطَبون هنا هم جماهير القوى السياسية الملبّون لنداءات قادتهم بالنزول إلى الشارع وإقفال الطرق، كلما آن أوان شد عصبٍ ما، على اعتبار أن معارضي المنظومة ومجموعات انتفاضة 17 تشرين ما عادوا يمتلكون الشارع منذ أكثر من سنة. ونُغالي في تحسين الظن، تحت طائلة السذاجة، لنقول إن الشخصيات الإعلامية والفنية المشاركة في الفيديو قطعاً لا تعني بمناشداتها تلك، أهالي ضحايا تفجير مرفأ بيروت والمتضررين، وربما (فقط ربما) لم يقصدوا أيضاً عتاب المأزومين في أدويتهم وغذائهم وصحة أولادهم، وأنهم يقرّعون السلطة كي تؤجّل فضائحها وارتكاباتها ريثما يغادر الضيوف (المغتربون والسياح المحلوم بهم)، كما تفعل الأمهات مع أطفالهن الأشقياء.
لكن المُربك فعلاً في الحملة، والسؤال الأصعب: مَن هم أصحاب الخطاب هذا؟ بألسنة مَن يتحدث نجوم الصحافة والرياضة التلفزيون؟ بإسم أي شعب، أي فئة من شعب أو من سكان بما يشمل (معاذ الله) العمال الأجانب واللاجئين/النازحين الفلسطينيين والسوريين؟
يقول الخطاب، المُستظرِف بثقالة اللعب على شتائم متوارية وتهكّم صريح: “تعبنا وصار لازمنا فرصة.. من استفزازكم، من لغة الكراهية والعنف، فكّوا، حلّوا عن..، شهر مش كتير، شهر 12 صفر اشتباكات، فرصة من التحريض على الهجرة والفتنة والحرب، عبالنا نعيش متل العالم والناس، اتركونا نستقبل أصحابنا وقرايبنا يجوا لعنا، عبالنا نِهدي بعض، ابتداء من سنة الجاية اطلع وانشر غسيلاتك لكل العالم..”.
في لبنان، حيث قدرت منظمة “الإسكوا”، العائلات الرازحة تحت خطّ الفقر، بـ1.25 مليون عائلة، 40% منها تحت خط الفقر المدقع، و60% تحت خط الفقر العام، إذ باتت غالبية اللبنانيين عاجزة عن تأمين السلع الغذائية والاستهلاكية الضرورية، فيما تشير تقديرات أخرى إلى أن 80% من السكان تحت خط الفقر، ويرتفع المعدل أكثر بين اللاجئين الفلسطينيين والسوريين…
في لبنان، حيث بيّنت دراسة لمنظمة “اليونيسف” أن 53% من الأُسَر لديها طفل واحد على الأقل فوّت وجبة طعام في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، مقارنةً بنسبة 37% في نيسان/أبريل الماضي، وأن ثلاثاً من كل عشر أُسَر اضطرت إلى خفض نفقات تعليم أطفالها، لتهدد الأزمة فرص حصول 700 ألف طفل في لبنان على تعليمهم، منهم 260 ألف طفل لبناني…
في لبنان، حيث فقدت الليرة أكثر من 90% من قيمتها، وطارت الودائع المصرفية، والمغتربون يحارون في كيفية تحويل الأموال لتمويل هذا الخراب والصامدين المُتصامِدين فيه..
في لبنان، حيث صارت الأرقام، سواء إحصاءات الفقر والإفلاس، أو مروحة أسعار الدولار مقابل الليرة، كالضجيج الأبيض الذي يغفو عليه الرُضَّع، كالضجر القاتل، كأبواق السيارات وروائح النفايات وأدخنة العوادم والمولدات. لا تُفاجِئ ولا تُسَجَّل. فقط تهيمن على الحياة بتأكيدها المؤكَّد، الأسوَد المحفوظ عن ظهر قلب وعَيش..
لا بد أنها الـ20% التي تتكلم، 40% في أفضل السيناريوهات. لبنانيون يريدون -ويستطيعون- شراء هدايا واستقبال مغتربيهم. يشتاقون للاحتفال بالأعياد، بلا رصاص ولا زعيق ولا نكَد. على رواق، مثل الأيام الخوالي. أيام فقاعة البحبوحة، والستار الدخاني حاجب باب التبانة وأقاصي عكار وأحزمة البؤس حول بيروت وسواها من مناطق العوز البلدي المعتّق والأصيل.
لا ينقص تلك الفئة سوى فرصة/إجازة من الاستفزاز والكراهية والفتنة، كي يسترجعوا البهجة و20 إلى 40 في المئة من الصورة القديمة، أقل من نصف الحبور اللبناني يكفيهم حبوراً كاملاً ولو كان مؤقتاً محصوراً في شهر الأعياد. فالنواقص ليست مقوّمات الاحتفال، بل أكثر من نصف السكان.. الأشباح. يريدون وقتاً مستقطعاً من التحريض على الهجرة والحرب، من التشويش، لأن ثمن الهجرة والحرب والكراهية لا يطاولهم.. أو هكذا يظنون.
أهل الفيديو المشاهير، متضررون في أفراحهم. تعبوا! مُستهلِكون ضُرب موسمهم نفسياً، وينشدون هدنة من الأزمة لاستئناف ما لم تقوّضه الخسائر إلا قليلاً.
أهل الفيديو من قطاعات اقتصادية واجتماعية ومهنية، حزانى على إنتاجهم ومبيعاتهم، حزن الطباخ على أطباقه التي ستُرمى بعدما مات 80% من المدعوين، 60% في أفضل الأحوال. التجار يضمّون أصواتهم إلى أصوات 20% من الشارين، 40% في أفضل التخمينات، ليخرجوا بخطاب مَطلَبي مُنتهاه: فُرصة، عُطلة من المأساة التي، حين لا تقتُل، تسبب الغثيان. هذا ما تفتق عنه غضبهم الذي قرروا صوغه في حملة.
ومَن يُفترض أنهم نخبة، مؤثرون، وربما صانعو رأي عام، آثروا تجنيد إمكانات مالية ومعنوية لإطلاق صرخة البسكويت، بدلاً من الخبز والدواء والمدرسة والوقود والكهرباء ومياه الشرب. صرخة لجرعة تخدير بدلاً من العلاج.
لا عيب في افتقاد المسرّات وحتى الملذّات. لا شائنة في الحنين إلى حياة كانت أجمل، بكل تفاصيلها، بأساسياتها ومكمّلاتها. لكن المدهش هو اختزال كارثة في تفصيل مؤسف يمسي كل الخطاب لمجموعة تمتلك من المقدّرات والمنصات ما يُلزمها بأكثر من ذلك بكثير.
مَن قال إن الفقر هو فقط فقر الجيوب والحقائب المدرسية، الثلاجات والصيدليات المنزلية؟ الفقر أيضاً فقر الوعي والعمق وآليات الاحتجاج.
*المدن