رشا الأطرش: الجيل العربي الأخير

0

ليس جمهوراً هذا الذي تفاعل بشدة، سلباً وإيجاباً، مع عودة شريهان إلى الشاشة الصغيرة، في إعلان رمضاني. ليس جمهوراً أحبّ وحنّ، انتقد وأصيب بالخيبة، فَرِح واشتبك مع “البنت الشقية” العائدة كَهلَةً، بمعظم جمالها وأناقتها من زمن المجلات اللمّيعة، لكن من دون معظم إمكانات الفنانة الاستعراضية المكرّسة في أرشيف الفوازير والمسرحيات الغنائية.
ليس هؤلاء جماعة كبرى من مشاهدين قدامى متجددين، في مصر والعالم العربي. ولا هم “همروجة” السوشال ميديا المعتادة. إنهم جيل بذاته. “الميكرو-جيل” العربي الأخير الذي تَجمَعُ أفرادَه ذاكرةٌ مشتركة. حنينه أو خذلانه، ليسا بوادر فَقد عابر، بل ربما يرقيان إلى العلامة الفارقة لسرب شباب آفل لن يورث محدّداته لأحد.

إنها فئة خاصة من “الجيل إكس” العربي الذي تخبرنا علوم الاجتماع والإناسة أنه المولود بين العامين 1965 و1980. فئة تنتمي إلى “إكس”، لكنها تحفر لنفسها حرفاً سلوكياً وثقافياً متمايزاً، حرفٌ لم يفرض نفسه بالكامل على أبجدية الدراسات الجيلية، لكنه حاضر، غني بنفسه، ومُنتج ظواهره. نتحدث عن الفئة المعلّقة، ثقافياً وتاريخياً، على حافة استثنائية، بين “إكس”، بهزائمه وانكساراته السياسية والاقتصادية، وبين جيل الألفية المولود بين 1981 و1996، زمن التحولات والمواجهة الواقعية -وربما البراغماتية- مع الدولة والفنون والعالم المتغير.

نتحدث عن “ميكرو-جيل”، “إكس-ألفيّ”، أبصر النور بين حقبتين مُعرِّفتين بالكثير من سمات عصرنا السيال وأبنائه. خرج إلى الدنيا خلال مرحلة انتقالية، تكنولوجياً وإعلامياً وحتى سياسياً، غالباً بين 1977 و1983. ميكرو-جيل عربي، كبر في الثمانينات، وراهَق في أوائل التسعينات التي في أواخرها خَرج إلى العمل والحياة، جامعاً سخط وخيبات ومرارات “إكس”، مع فوران وتفاؤل “الألفية” التي افتتحها شاباً متأقلماً بسرعة مع الانترنت والموبايل، في الجامعة والمهنة، طيّعاً أمام الكومبيوتر المتزايد انتشاراً ووفرة ولم يكن قد فقَد بعد قدرته على منح مستخدميه ختم امتيازٍ ما.

لعل أبناء هذا الجيل هم الأخيرون الذين، إن تلاقى منهم أي اثنين، غريبين، مجهولَين، من أي بلدين عربيين، فالأرجح أنهما لن يبذلا جهداً كبيراً في إيجاد مشتركات الطفولة والمراهقة، ومعها الكثير من المفاهيم التي تشكّل معنى العيش الأربعيني في 2021.

هم الذين تسمّروا أمام التلفزيونات، كل عصر، لمشاهدة “غرندايزر” و”جونكر”، النحلة زينة، سندباد، وساسوكي… انبهروا بـ”ليالي الحلمية”، وانتظروا أجزاءه من سنة إلى سنة. يذكرون كيف كان “رأفت الهجان” يُخلي شوارع المدن من ناسها. ولأن التلفزيون واحد أحد، فهُم أيضاً يحفظون مسرحيات وأفلام الستينات والسبعينات. أما الفوازير، سواء كانت مع نيللي، شريهان، أو ليلى علوي، فمرتع تحزّب لهذه أو تلك، وكلام كثير ومديد، في الأزياء والأغاني، الترفيه وتيماته،.. حدث عربي فعلي. لا يهم إن كان التلفزيون المحلّي المغربي أو السوري، الإماراتي أو الأردني،… كانوا جميعاً أمام شاشة واحدة، خيال متمّم يُقدّم لهم كلهم بالتساوي، بالجزل والحدود ذاتها، ليفعلوا به ما شاؤوا. كان زمن هيمنة مصر ولبنان، أفلاماً وموسيقى وأدباً. السلطان الثقافي، السمعي والبصري، صناعةً ونقداً وإبداعاً، في التلفزيون والراديو والصحافة بتلاوينها.

الأجيال السابقة امتلكت، هي أيضاً، مثل هذا الرابط-العصب، لكن “الإكس-ألفيّ” آخِرها. وخواتيم الظواهر تلفّها بهجة خاصة، استثنائية ما نعلم أنه مُنقضٍ، ريادة النهايات، بطَعم الحلو-المرّ. أما الأجيال اللاحقة، فهي ثَمرات انفجار التنوع، لا طوطم يشدّ أولادها إلا الوسائط، كبريات القمائش والوشائج، فيما المحتوي خصوصي حدّ الهويات الصغرى وصولاً إلى فردانيات مُغالية.

جيل “الإكس-ألفيّ” هو الذي ابتاع شرائط الكاسيت، وسجّل عليها مختارات، ثم ارتقى معها إلى “ووكمان” يشبكه بسماعات الأذنين التي لطالما اشتكى منها الأهل، قبل أن تبدأ عزلات الانترنت المتنوعة. لحق قرص “فلوبي” في الكومبيوتر ويحفظ ملفاته اليوم على “غيمة” في الانترنت، أسوة بأولاده. تأقلم سريعاً، وتبنّى -كأصيل- كل ما أفرزته التكنولوجيا خلال العقدين الماضيين. طفولته كانت بلا انترنت، مراهقته خالية من ضغوط السوشال ميديا والهواتف الذكية، لكن الشبكة العنكبوتية داخلت حياته المهنية غالباً قبل أن يشدّه العمر والتزامات العائلة إلى مصاف الميؤوس من تعلمهم أي جديد، واستطاع الانخراط في هذا كله حسب مزاجه وبشروطه الانتقائية. وهو الذي نظم أفراده لقاءاتهم عبر هواتف الخط الأرضي، بالاتفاق على مكان وزمان، وتعلموا تحية الأهل قبل طلب الحديث إلى أقرانهم.

هؤلاء التجربة الخاصة جداً. الذين، إن عاينّا خطاً وهمياً من عشية “النكسة” إلى زفاف ديانا على الأمير تشارلز في حفلة الأسطورة المتلفزة، قفزوا إلى النظر ككُرة فوسفورية. أكثر من مخضرمين. هُم وَصلة الزمن، جسر بين كوكبين. لذلك، فإن ضجيجهم، بحجّة شريهان، ليس القعقعة الفايسبوكية المألوفة. بل ربما ضوضاء المطحنة حيث يُعبّأ غبار النجوم.

*تلفزيون سوريا