يحدث أن يمنحنا الإنهيار، أحياناً، فرصة التفرج عليه. ينتصب واضحاً، بالألوان، مثل قوس قزح، في ذيل يوم ماطر، تحت لحظات مشمسة، قصيرة، لكن كافية لنرى كل ألوان الطيف. ليس قوس قزح الذي نراه في رسوم الأطفال وإعلانات الزبدة، فوق مرج أخضر وزهور وبقرات نظيفة تزقزق فوقها العصافير. ثمة أقواس ترتسم أيضاً في ضوء الواقع المجاريري الطافح. بتدرجات البني والأخضر والأصفر، مثل ذلك البحر من النفايات والمياه المبتذلة قبالة بحر بيروت الذي قد يتفوق على ظِلّه المستجد بالرائحة والتراكيب اللونية. وأقواس عجائبية أخرى، على ضفاف مسلسل “قساطل” مياه بيروت “العريقة” الزائد عمرها عن مئة عام، والمنفجرة على التوالي بالإهمال وانعدام الصيانة. آخِرها كان أمس، في منطقة رأس النبع، حيث أغرق النبع الانهياري الجديد، 13 سيارة في موقف سيارات من طابقين أسفل مبنى سكني، وتسببت حفرته في حادث سيارة كانت مارّة أمام المبنى. وبشّر محافظ بيروت اللبنانيين بأن “ما نشهده ما هو إلا البداية” في ظل التقصير/العجز لوزارتي الأشغال، والطاقة والمياه، ومؤسسة مياه بيروت.. “ونحنا ما عمّ نلحق على شي”.
ولا يحرمنا الانهيار حق التنويع، بالصوت والصورة، بالأفكار والتشكيل الممَوسق. فباستثناء مجموعة معروفة ومحدودة من المراسلين والصحافيين الجديين، ومقدّمي البرامج ذات المحتوى المُعتدّ به، نرى الإعلام اللبناني في أبهى حلل المنافَسة على الإثارة الرخيصة من أجل “الرايتنغ” وما تبقى من كعكة الإعلانات العفنة في سوق خَرِب. لكن الانهيار معقّد ومفذلك أيضاً، يأنف التبسيط وبساطة التصنيف. فالشاشات التي تبث تقارير إخبارية من صلب أوجاع المواطنين، وربما تنخرط في معارك مع السلطة حول قضايا أساسية، هي نفسها التي تصدّر كوارث بشرية من قبيل طوني خليفة، ورابعة الزيات، ومالك مكتبي، وتمام بليق، وجو معلوف.. مع حفظ فوارق الارتكابات، بين الحثالة مكتملة العناصر والسقطات المتواترة.
برامج ترتدي زي الاجتماعي في ليلة “هالوين”، وتقف أمام الانهيار الذي لا ينفك يمدّ لسانه من فوق أكتاف نجومها، ويرفع شارة النصر ليثبّتها على رؤوسهم/ن مثل ذينك الأذُنين المعروفَين. وهي، البرامج مع “إعلامييها”، تظن أنها تحجب الانهيار، ولو لساعة أو اثنتين، كأنما لتلهي الناس عنه وعن مسببيه، وعن الدولار الناهض إلى 30 ألف ليرة، أو لتقول أنها تخفف وطأته بخفّتها، وتتهور أحياناً فتُقسم بأنها تكافحه بالموضوعية والجرأة والرأي الآخر (لا مزدوجات كافية لهذا النص!)… بالمواضيع العتيقة التي نخرها الدود، وصار بعضها مُجرّماً بقوانين مُقرّة ومرعية الإجراء، بانتهاك الأجساد والكرامات الإنسانية للفئات الأضعف، من نساء إلى أطفال وفنانين مغمورين، إلى عجائز، وعجائز كانوا مشاهير، ومثليين ومعوقين وفقراء ولاجئين.. تُطرح الأسئلة السوقية، مضخات الأدرينالين البخس.
هل يحق للرجل ضرب زوجته… وكيف؟!!! تسأل رابعة الزيات، التي لا بدّ أنها أتعبت كثيراً رأسها الصغيرة وهي تعدّ اللايكات في سرّها خلال حلقة الجنس عبر الانترنت المستتبع بالابتزاز. ثم غشاء البكارة، الموضوع الذي لا يفنى، لكل زمان ومكان، ولن يخذل نابشيه أبداً. الرغبة الجنسية لدى المتقدمين في السن، مع سخرية مالك مكتبي من كل كلمة تقال، ومن هيئات قائليها وقائلاتها. الرجل إن رقص. (حماسة، تشويق، أرزّ بالحليب!). والمرأة السورية التي يفترض أن طوني خليفة يستضيفها لتحكي معاناتها مع المستشفى حيث ولدت ولم تستطع دفع الفاتورة، فانتهت بسماع تقريعه: ولماذا تنجبين؟… الممثلة المسنّة التي تعيش على بساط في بيت عارٍ من كل شيء، وتمام بليق يمسح بكرامتها أرض البلاط البارد، وفي حلقة أخرى يعاير فنانة مغمورة بماضٍ لا يهم أحداً سواها وبليق وبعض المرضى المستمتعين بمشاهدته. وفي هذه الأثناء المجيدة، ينبري طوني خليفة، حيث لا يجرؤ الآخرون، ويمنح الهواء منبراً للأستاذ الطرابلسي المتحرش.
المجد للانهيار حين يعمّ..
هذه كلها مرادفات الانهيار العام، صورته في المرآة. وهي أيضاً كمالته التي، حين يعجز عنها بقوته الذاتية، يجد رثاثة تحملها بغية إقفال دورته المقيتة. كما أنه، ليس فقط المنتهى الذي لا مهرب من رذاذه إن طرَشه الابتذال، بل يصبح أداة في أيدي مشغّلي المراوح الصدئة، لتهيئة الأرضية الجماهيرية بالمزيد من ثقافته، فتزداد خصوبة، من أجله، وتدور دائرة حياته الخالدة، ويدور فيها طوني ورابعة وتمّام…
أما حينما تنهار اللغة بغرض التمرد، ولو فقط بالنقد وفشّ الخلق، أو ينكسر “اتيكيت الاعتراض”، فإن الانهيار يوضّب شنطة صغيرة، يضع نظارة شمسية غامقة، ويذهب في إجازة. فتتحرك الأجهزة الأمنية بكل رشاقة، لتستقبل شكاوى على ناشطين وساخرين من الرؤساء، وآخرها شكوى بحق أماني دنهش (الشهيرة بفيديوهات “أمونز”) لتعرّضها لمقام رئيس الجمهورية، وأخرى تقدم بها وزير الشؤون الاجتماعية، هكتور الحجار، على مجموعة ناشطين “اقتحموا” مبنى الوزارة وساجلوه بشأن البطاقة التمويلية ومساعدات لم تُعرف سبل إنفاقها، في حين أنهم دخلوا الوزارة هاتفين سلميين وبصحبة القوى الأمنية.
وتتحرك الأجهزة أيضاً، خلال عطلة الانهيار الطارئة، لتمنع مسرحية طلابية راقصة تتهكم على الأزمات اللبنانية، لتحظر فيلماً أو أغنية، وتلاحق صحافيين ومّدونين في الشبكات الاجتماعية، بكل همّة ونشاط. فـ”الرزق يحب الخفّية”، على رأي المثل الشعبي المصري، ولا استرزاق في زواريب الشبيحة وحاملي السلاح المنفلت في القرى والأحياء، ولا في المصارف، وأكشاك الصرافين مبدعي إشاعة “المئة دولار البيضاء” منتهية الصلاحية… أما عرقلة التحقيقات في جريمة المرفأ، والبهلوانات المالية القاتلة التي يمارسها رياض سلامة، فهي “الشوق الشوق” للعدالة ومكافحة الارتطام.. ريثما يعود الانهيار بالسلامة ويتكفل بالباقي.
*المدن