ثمة دهشة إضافية تكتنف افتضاح قصص التحرش والاغتصاب في الأوساط الثقافية والإعلامية والفنية، خصوصاً في الدوائر اللبنانية المُسمّاة “بديلة”. تلك المُعتبَرة خياراً صُنِع وشُحِذ، خلال العقد الأخير على الأقل، من قِيَم مغايرة للأعراف والتقاليد والسائد الديني والسياسي والإبداعي. تلك الجُزر المخضوضرة في تصحّر خطابي وإبداعي وفكري ما زال يتمدد. مختبرات ومواهب وجمهور غير معلّب. شبان وشابات يبدو مريحاً -بل باعثاً على التفاؤل- ارتيادهم تلك “المحميات” بدلاً مما هو مؤطّر وبلاستيكي، وربما خطر.
الأمر لا يتعلق بـ”عِصمة” قد يسبغها الدائرون في هذه الأفلاك على كواليسها والمشتغلين بها. فالجريمة، من حيث المبدأ، لا تستثني حقلاً أو مساحة، فِكراً أو تعليماً أو طبقة اجتماعية. ومع ذلك، تبدو حكايات الناجيات، من أوساط المسرح والصحافة وحقوقيي المجتمع المدني، لكثيرين، أكثر إثارة للرعب والمفاجأة والاشمئزاز. إذ يفترض أن هؤلاء أناس “يشبهوننا”! أشخاص نظنهم أقرب إلى الانفتاح والتسامح والقناعات المستقاة من المساواة في المواطنة والجندر، في الحقوق والواجبات والأمان، نخالهم مؤمنين أصيلين بالحريات وصون الذات البشرية وجسمها وحياتها… فلماذا؟
الأرجح أن شهادات الناجيات، المتكاثرة بأثر من تبادل التشجيع على البوح والفضح والمحاسبة (المستطاعة) المعنوية للجُناة، تسلّط الضوء على مفاصل ليست بجديدة في عموم البُنية الثقافية اللبنانية، لكنها الآن ذات دلالة أكبر. فالفضاءات هذه اعتُبرت، لوقت غير قصير، “آمنة” لفئات هي أضعف بحُكم أقلويتها أو مغايرتها للنموذج المعمّم كمقبولٍ ومعترفٍ به ومُحتضَن… لا لوَهمٍ إلا لأنها، وحين لا تكون منبثقة عن سُلطة وأحزاب وطوائف، يُفترض أنها الأكثر استنارة وتقدمية. وهي التي حفرت أمكنتها في الأساس كمواقع احتجاج وتمرد على “السيستم” ككل، على المنظومات التقليدية المتجذرة سياسياً واجتماعياً وأخلاقياً. هي، في الافتراض الأوّلي، كسّارات القوالب والأنماط، خصوصاً حينما نتحدث عن صيغ الأندرغراوند، عن الهامشي والفرعي، في مواجهة المتن المتقادم والرجعي في كثير من وجوهه وممارساته ومعاييره وأحكامه النافذة.
سيقول قائل: أنظروا هوليوود، وما عرّته فيها، وحول العالم، حملاتُ “مي تو”. صحيح. لكن هوليوود -ومثيلاتها- أحد مصانع التيار العريض، تستفيد من شتى شبكاته وحماياته. مؤسسة متن، لا هامش. لطالما ولّفت خيال السلطة السياسية والاقتصادية وقوى السوق والشركات متعددة الجنسيات، حتى باتت هي نفسها سلطة تدخل في صراعات الكبار كلاعب متعدد الرؤوس والأذرع. أما بيوت الثقافة الصغيرة التي تفرخ في بلد مثل لبنان، خلافاً لدولة متهالكة وجماعات على أهبة حروب لا تنتهي وأزمات حُكم واقتصاد وأمن، واحات الكتّاب والمخرجين والموسيقيين والناشطين نَمَت على أساس أنها بالضد من الهياكل الكبرى المستندة إلى سرديات مقدسة وإيديولوجيات مغلقة على “ثوابتها” ونجومها ومكرّساتها. اتسعت كأراض يُستنبت فيها النقد، وتُقطَف ثماره الحُرة -بالحد الأدنى- داخل كل بوتقة وبين أهلها… بل وبالصورة هذه راحت تجتذب الممولين الدوليين ودعم المؤسسات الغربية والعالمية.
مرة أخرى، سيقول قائل: إن عوالم التمويل والهِبات ودعم المشاريع، ليست بريئة. ومجدداً، هذا صحيح، من دون السقوط في فخاخ “مؤامرة تدجيننا واستعمارنا والقضاء على قيمنا”، وسائر تلك الترهات. لكن الفساد قطعاً موجود، في المؤسسات الغربية والدولية وامتداداتها العربية والمشرقية. بل إنه، في الكثير من الأحيان، بات يجيد الاحتيال على كل الكثير من الضوابط البيروقراطية الموضوعة أصلاً لحماية الشفافية والنزاهة وتكافؤ الفرص. لكن النُّظُم القانونية والقضائية والاجتماعية الأكثر تطوراً، قادرة على المعاقبة، وبقسوة، في حالة الانكشاف، والتحقيق يكون تحقيقاً ومؤلماً، وقوة هذه النٌّظُم في ظل ديموقراطية عامة تشكل رادعاً إلى حد لا يستهان به… لا نصيب للبنانيين والعرب في مثله. هكذا، فإن شابَهت “دكاكين” الثقافة في لبنان، مثلاً، جمعيات وكيانات ثقافية صغيرة في برلين أو باريس أو نيويورك، فإنها لا تُسيَّج بمُعرقلات الفساد والانتهاكات والتعديات نفسها.
المؤسسات الثقافية البديلة، اللبنانية والعربية، ما زالت دون المأسسة وإجراءاتها. ما زالت شِلَلية إلى حد كبير. بل وفي مرات كثيرة، فردية، يسيّرها شخص يحيط نفسه بمريديه وزبائنيته. فالتحقيق يمسي مقابلة يجريها مسؤول(ة) أمام المرآة. وإن “كبر”، فبإجراء مواجهة بين المتهم والضحية، غالباً ما يحصد فيها الأول تكتل المصالح، فيما تجرجر الثانية أذيال الضغوط والتكذيب واللا-حماية إلا في السوشال ميديا حيث ثمن الضوء باهظ حارق. أما المحاسبة، إن لاحَت، فسقفها بيان وتنصّل وكبش محرقة يُعطى إجازة طويلة من عمله.
ولعل الإشكالية المفجعة الأعمق، أن الأروقة الثقافية التي تخرج منها الحكايات المفزعة هذه، هي التي تقدم نفسها كحاضنات لأفكار برّاقة عن الأجساد والنساء والحرية الفردية… والثورة. والأرجح أن ما يُرتكب فيها، يُرتكب تحت هذه الشعارات وبإسمها… تثاقف العنف، لعله… فيما تُقترف أفعال بالبشاعة نفسها، فوق الأرض، في المجتمع على ضفتي التيار السائد، تحت مسمّيات ذكورية وأبوية نعرفها ونحفظها جيداً. والمفارقة أن القبيلتين، فوق الأرض وأندرغراوند، تعتقدان أنهما في حالة صراع فكري، بل وجودي.
*المدن