لا موضوع مثل الأمومة، يتكثف فيه، تقريباً، كل شيء. لَحظيّ وموروث، تقليدي وتقدّمي، مُعاصر وغريزي، بدائي وكذلك خارج الزمن. حولها يدور الكثير. علم النفس، بدايةً ومنتهى. رواية، أغنية، بيولوجيا. معاناة، يُعترَف بها الآن، في الروح والجسد. الفرح الذي يجتاح. الحب الذي قد يُعجز اللغة. الجنس. الجندرة وأدوارها، والحقوق التي تهضمها الأمّ، أو تُحرَم منها. والسياسة بالمباشر، من الإجهاض إلى قوانين إجازات الأمومة وساعات العمل المدفوع وغير المدفوع والتعويضات والتأمينات. الولادة “الطبيعية” والرضاعة أصبحتا في خانة الخيار الثقافي والجسماني، لا تحصيل حاصل، السياس غير المباشرة. الطب، بأخلاقياته وإشكالياته، ذكوريته ونسويته. الطفولة المُنقضية، كتاريخ وتأريخ لأمومة راهنة، وما نشتهيه من إنجاب أو عدمه..
الأمومة كموضوع، وكذاتٍ أيضاً، تم تفكيكها وتشريحها. أحياناً هُشّمت، وأحياناً أخرى سُبرت أغوار جمالياتها الأشد إشعاعاً. الحب الذي لا يماثله حب، والتحقق العضوي، والتغيير الذي تحفره صيرورة الأمومة في شخص خائضتها حفراً. وفي الطريق، نالت احتفاءً من النوع الذي لم تكن لتنله – عربياً – قبل عشر سنوات أو عشرين. سواء كإنتاج إبداعي أو فكري أو علمي، أو، وهنا الأهم، في يوميات الناس وجورنالاتهم المعلنة وأحاديثهم فوق فناجين قهوة… حتى بدا أن الأمومة، كصرح، كمكنون غالٍ، مُعتدى عليه بشيء من التعرية، الاقتحام. لكنه في الحقيقة، يأخذ حقه من التفكيك والاحتضان، الغضب منه وبه ومعه، ثم العودة للتصالح معه بحلته الجديدة. بلسمة جراحه والتطبيع مع تحدياته. تَعلُّم قول “لا” و”كفى” لشخصياته والشخصيات المحيطة به، حين تصبح تدميرية أو سامّة. كل ما في الأمر أنه ما عاد مقدساً. وأي شيء أنبل وأكثر إثارة من نزع القداسة عن أي شيء، لأنسنته وتلطيفه وتفكيك ألغامه… فكيف بالدور الذي يطبع حياتنا وحيوات من حولنا؟
الأرجح أن الأمومة العربية، خلال العقدين الماضيين، تجاوزت نفسها. بتشريحها، باتت مفتتح كلام لم يكُن عن… الأبوة. كلام إضافي، معرفة جديدة. وصارت الإذنَ والتصريح بإعادة زيارة البنوّة. أمهات نحن، نتذكّر أمهاتنا بحلوهنّ ومُرّهنّ، ونتذكرنا أطفالهن سعداء وتعساء، فيما نكبّر أطفالنا ونكابد إشكاليات ما نقترفه بحقهم وما نمنحهم إياه بعاطفة جارفة أو عملانية مطلقة.
يصادف يوم عيد الأم أيضاً، اليوم العالمي للشعر. يقال إننا في عصر الرواية، وأن الشعر الذي صنع جبروت مراحل منصرمة… مات، أو ربما صغرت دوائره. عن الشعر الممتلئ الفعلي والجادّ، نتحدث. والأمومة، كما عرفناها في القصائد المدرسية و”ست الحبايب” و”الأم مدرسة إذا أعددتها…” وصولاً إلى “أحن إلى خبز أمي” و”أمي يا ملاكي” و”أجمل الأمهات”، انكفأت جيلياً، وما عادت الجنة تحت أقدامهن. بل إنهن، مع أولادهن، بتن يُعملن سكاكين المطبخ في هذه الجنة، وأحياناً يرفضنها بالكامل، وما عاد من بأس في ذلك.
روايات إحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ وخيري شلبي وغسان كنفاني، تراجعت شخصيات أمهاتها إلى خلفية المشهد، كتراث، أيقونات متحفية. وخرجت كتب من قبيل “كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها” لإيمان مرسال، عن الوجه المظلم للأمومة وما تكتنفه من أزمات نفسية وذهنية وبيولوجية. وقبله رواية “الرجل السابق” لمحمد أبي سمرا، عن رجل/أب يسرد طفولته عبر هجاء طويل لأمّه. والشبكات الاجتماعية مرتع أدبيات أخرى عن الأمومة. لا تخجل من تكسيرها تارة، أو الإضاءة على مكامن ضعفها تارة أخرى. وبين الأدبيات تلك، ما لا يُثنيه “التريند” عن الاحتفال بالأمومة لحظة بلحظة، طفلة طفلاً، صورة صورة، ومنذ ما قبل الكلمة الأولى حتى رسائل الأولاد المتيمين بأمهاتهم. أدبيات تنفلت وتتحرر في الاتجاهات كافة، ربما ليقينها بأن الأمومة متجذرة في الشرط الإنساني إلى الحد الذي لا خوف معه على الآلهة من السقوط. لكن لا بأس في تقليم هالتها. آلهة أصغر، على مقاسنا جميعاً.
تخرج أصوات عربية تقول إنها نادمة على أمومتها. أصوات أخرى تقول إنها تختار ألا تخوض الأمومة، مع رفض لوصمها بالنقصان. اكتئاب مرحلة ما بعد الولادة ومراحل لاحقة من حياة المرأة-الأم، صار موضوعاً مفتوحاً صريحاً، بل يتضمن خطاباً مطلبياً لا مجال فيه للاستخفاف أو النكران. باتت الأمهات والنساء في لجّة بوح حرّ، يستقطب تفهماً ودعماً واعياً، بقدر ما يجتذب تعييراً وتوبيخاً وتحقيراً. بهذا المعنى، صارت الأمومة العربية أرضيّة… أحلى، وأكثر حقيقية.
ربما لا موضوع مثل الأمومة، هو محور كل تلك العقد والتوقعات والوصمات. أمهات ضحايا، وضحايا للأمهات. وفي لدنه ومحيطه، اليوم، تتشابك عناصر الحياة كلها تقريباً. العمل والعلاقات، النجاح والفشل، الروعة، الكآبة والذنب واللذة، وفوق كل شيء والأهم: القلق، رفيق الأمومة الوفي حتى نهاية المطاف.
بعد عقود طويلة من التجربة الغربية (ليو تولستوي، جاين أوستن، تشارلز ديكنز، غوستاف فلوبير، رولاند بارت، وشارل بودلير، وغيرهم)، دخل العرب أخيراً مرحلة التجرؤ على الأمومة، والاستقواء بها أيضاً. تطبيعها. وتزامن هذا كله مع التجرؤ على مفاهيم وأدوار أخرى: الوطن، القضية، التاريخ الرسمي، الحب، العذرية، الأنوثة/الرجولة، الجماعة، الطائفة، الزعيم، السلطة، الأبوية، المثقف، أم كلثوم، نزار قباني، عبد الناصر، الأنبياء، الإسلام، بل والإنسان نفسه في زمن “تشات جي.بي.تي”..
الأمومة مفتاح هذا كله؟ ربما حتى من قبل تفكيكها وفتح بطنها للنقاش العام. وربما هذا النقاش هو نتاج تمرد عام وشامل صبغ جيل الألفية. أو القليل من هذا وذاك. المهم أنه، وفي هذه الأثناء، تتبلور أجمل الأمهات التي لا تختنق بقدسيتها، بل تعيش أمومتها، وتعيّشها للمعنيين بها، كتجربة، والتجارب متغيرات وأنواع ومحصلات… غِنىً حتميّ.
*المدن