128 رسالة لأشهر الرموز التاريخية منذ قبل الميلاد حتى القرن العشرين يحملها كتاب «أشهر الرسائل العالمية» الصادر في القاهرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وهو نسخة جديدة من عمل ضخم صدر للمرة الأولى في جزأين للمترجم الراحل محمد بدران، الذي كتب في مقدمته: «إذا كانت السير الذاتية أكثر فروع الأدب طرافة ومتعة فإن أكثر ما فيها من حيث التشويق الرسائل الشخصية، فهي روح المرء السافرة ومرآة قلبه الصادقة ينعكس عليها ما يدور بخلده وما يخفيه في قرارة نفسه فيظهر فيها واضحاً على حقيقته غير مشوّه. وإذا كان أكثر ما يهتم به المؤرخون هو أخبار الملوك وحروبهم فإن الرسائل الشخصية هي التي يجب الرجوع إليها لمعرفة الناس على حقيقتهم والكشف عما كانوا يخفونه من أخلاقهم وأعمالهم عن أعين غيرهم في الحياة العامة».
بين الإسكندر وملك الفرس
بحسب المؤلف، تتكون سيرة «الإسكندر الأكبر» كما نقرؤها في كتب التاريخ من مزيج من الحقائق والأوهام لا يسهل التفريق بينها، ساهم في ذلك أبهته الشرقية وقسوته البالغة وحياته القصيرة وموته المبكر في الثالثة والثلاثين من عمره. ويورد الكتاب بعضاً من الرسائل التي تكشف عن الجانب الحقيقي في شخصية هذا القائد الفذ والتي تبادلها مع «دارا الثالث» ملك الفرس الذي ارتقى العرش في السنة نفسها التي ارتقى فيها الإسكندر عرش مقدونيا عام 336 قبل الميلاد.
في رسالة من «دارا» إلى «الإسكندر»، تتبدى لنا قسوة وغرور القائد الفارسي الذي يمنح نفسه لقب «ملك ملوك العالم»، وكيف يبالغ في تصوير قوته على نحو يخالف الواقع على الأرض فنراه يقول: «من عاصمة ملوك العالم ليعلم الإسكندر اللص، ما دامت الشمس تشرق على رأسك فلتعلم أن مالك السماء قد وهب لي ملك الأرض وأن الله القادر على كل شيء قد منحني أركانها الأربعة وأن العناية قد خصتني بالمجد والرفعة والجلال وبعدد لا حصر له من الأنصار والأحلاف، وقد ترامى إلي أنك جمعت حولك طائفة من اللصوص وأراذل الخلق وأن كثرتهم قد أعجبتك وغرتك فأردت أن تستعين بجميعهم ليكون لك تاجاً وعرشاً ولتخرب ملكنا وتدمر أراضينا وتهلك شعبنا. أما الحركة الإجرامية التي أقدمت عليها فلا تخشى بسببها بطشنا وعقابنا لأنك لم تصبح بعد في عداد أولئك الذين يستحقون غضبنا وانتقامنا وها أنا ذا أرسل إليك صندوقا مملوءا بالذهب وحماراً محملاً بالسمسم لتعرف منهما مقدار ما عندي من مال وما لي من سلطان ومع هذه الهدية سوط وكرة، فأما الكرة فلكي تلهو بها اللهو الخليق بسنك، وأما السوط فلتعذب به نفسك».
ولما وصلت هذه الرسالة إلى يد «الإسكندر» أمر بالقبض على حملتها وقطع رؤوسهم ولكن رجال حاشيته هالهم الأمر فرجوه أن يعفو عنهم فأجابهم إلى طلبهم وكتب إلى دارا الرسالة التالية:
«من ذي القرنين إلى من يدعي أنه ملك الملوك وأن جيوش السماء نفسه ترهبه وأن أهل الأرض جميعاً يستضيئون بنوره، فهل يليق بإنسان كهذا أن يخشى عدواً حقيراً كالإسكندر؟ ولقد بعثت إلي مع رسالتك التي تفتخر بها بقوتك سوطاً وكرة وصندوقاً مملوءاً بالذهب وحماراً محملاً بالسمسم وهما فأل حسن، فأما السوط فدليل على أني سأكون أداة تأديبك وأني سأصبح حاكمك ومعلمك وهاديك، وأما الكرة فتشير إلى أن الأرض وما عليها ستكون خاضعة لرجالي، وأما الذهب وهو بعض ما لديك من كنوز فيدل على أن مالك كله سينتقل إلينا، وأما السمسم فحبّاته وإن كثر عددها ناعمة الملمس وهي من أحسن الأطعمة وأقلها ضرراً، وها أنا ذا أرسل إليك حفنة من حب الخردل لتتذوق فيها مرارة نصري».
قصة حب حزينة
كان «بيتر أبلار» من أبناء إحدى الأسر الشريفة الموسرة في فرنسا في العصور الوسطى، ولما بلغ السابعة والثلاثين من عمره عام 1116 كان قد حصل من العلم ما لم يحصله غيره من أبناء الأشراف فكان أستاذاً للمنطق في جامعة باريس كما كان من كبار رجال الدين في كنيسة نوتردام وأقبل عليه الطلاب من جميع أنحاء أوروبا ليستمعوا إلى محاضراته الفلسفية العميقة وجاءت «هلواز» إلى بيت عمها فلبرت لتستمع إلى محاضراته الشيقة. أعجب الفيلسوف بجمالها وذكائها فعمل على أن يكون مدرس الفلسفة لها وكان لا بد أن تنشأ بين الاثنين علاقة حب.
لم يكن «أبلار» يستطيع العيش من غير أن يرى «هلواز»، فظلا يتقابلان سراً ثم فر بها إلى مدينة مجاورة وأخذ يلح عليها أن تتزوجه ولكنها رفضت حتى لا تقضي على منصبه في الكنيسة قائلة له: «أليس الحب أقوى على ربط قلبينا من الزواج؟»
في نهاية المطاف تزوجا وعادا معاً إلى باريس وسمع «فلبرت» خبر عودتهما فانتقم من «أبلار» أشد انتقام، إذ أغرى مجموعة من الأشرار بالهجوم عليه في بيته ليلاً، وبتروا بعض أعضائه. فر «أبلار» بعد ذلك من باريس وأشار على «هلواز» بأن تدخل الدير فدخلته ثم صارت فيما بعد كبيرة راهباته، أما هو فقد ظل أعداؤه يطاردونه في الأديرة التي ساقته الأقدار إليها. ولم يكن له في هذا العذاب سلوى إلا الرسائل التي كانا يتبادلانها.
في إحدى رسائلها إليه تقول «هلواز»: «ليس ثمة ما يمنعنا أن نتبادل الرسائل لأن هذه المتعة البريئة لا يحرمها علينا الناس فعلينا إذن ألا نضيع بإهمالنا تلك السعادة التي لم يبق لنا غيرها ولعلها هي السعادة الوحيدة التي لا يستطيع حقد أعدائنا أن يغتصبها منا وسأقرأ في رسائلك أنك زوجي وسأوقعها بأني زوجتك وستكون أنت في هذه الرسائل ما تحب أن تكون. وما دمت قد فقدت تلك السعادة العظيمة، سعادة النظر إليك والاستحواذ عليك، فلا أقل من أن أستعيض عن بعضها بما أجده من اللذة في رسائلك».
نابليون يستعطف جوزفين
نال نابليون بونابرت كقائد عسكري المجد والشهرة، لكن الهزيمة الأعظم التي تلقاها كانت في عشقه لـ«جوزفين»، فتزوجها رغم ما كان يحيط به من الأخطار في المعارك. بدأ هذا الحب منذ أن قابلها وهو ضابط صغير وهي أرملة في الثانية والثلاثين من عمرها، رشيقة القوام وإن لم تكن بارعة الجمال، ولم تنقطع رسائله لها رغم أخطار الحرب وشؤون الحكم ثم استحال هذا الحب إلى عطف عليها بعد أن طلقها مضطراً.
في إحدى رسائله يقول لها: «لست أحبك، لست أحبك مطلقاً، بل إني أمقتك! إنك فتاة خبيثة سمجة حمقاء. إنك لا تكتبين إلي ولا تحبين زوجك وأنت تعرفين ما تدخله رسائلك من السرور على قلبه، ومع ذلك فإنك لم تكتبي إليه ستة أسطر تقذفينه بها عرضاً! ماذا تفعلين طوال الوقت يا سيدتي وأي شأن خطير يشغلك، فلا يترك لديك من الوقت ما يسمح لك بالكتابة إلى محبك المخلص الوفي؟ وأي عاطفة تملكتك حتى تغلبت على الحب الخالص الدائم الذي وعدته به؟».
دوستويفسكي يواجه الموت
انخرط الكاتب الروسي الشهير فيدور دوستويفسكي في سنوات حياته الأولى مع مجموعة من الشبان الروس المتطرفين المتأثرين بكتابات الاشتراكيين الفرنسيين حول الطرق التي ينبغي أن يسلكوها لإصلاح نظام الحكم في بلادهم. حين بلغ الثامنة والعشرين قبض عليه وصدر ضده حكم بالإعدام، وقبل أن ينفذ الحكم بلحظات قليلة أبلغوه بأن الحكم قد استبدل بالنفي والسجن. تركت الثواني القلائل التي كان فيها دوستويفسكي بين الحياة والموت أثرها البالغ في حياته، وهذا ما نراه في الرسالة التي كتبها إلى أخيه بعد يوم واحد من هذه المأساة:
«أخي وصديقي العزيز: لقد انتهى كل شيء وحكم علي بالأشغال الشاقة في القلعة أربع سنين أعود بعدها جندياً بسيطاً. أخذنا إلى ساحة التدريب حيث تلي علينا جميعاً حكم الإعدام وأمرنا أن نقبّل الصليب وكسرت سيوفنا فوق رؤوسنا واتخذنا زينتنا الأخيرة، ثم صدر إلينا الأمر بالرجوع وحل وثاق الذين كانوا مشدودين إلى العمود، وبلغنا أن صاحب الجلالة الإمبراطورية قد وهبنا الحياة!».
صدمة وانتحار هادئ
وإذا كان دوستويفسكي يخاطب أخاه بلغة التصالح مع الذات، فإن أنطون تشيكوف عبقري القصة القصيرة الفذ يخاطب أخاه «نيقولاي» بلغة اللوم والعتاب حين ينصحه قائلاً: «طالما شكوت إلي من أن الناس لا يفهمونك، إن جوته ونيوتن لم يشكيا من ذلك وإذا كنت أنت لم تفهم نفسك فليس الناس هم الملومون. إني أظن أنك رقيق القلب إلى حد الضعف، إنك نبيل بعيد كل البعد عن الأثرة، لا تتردد في أن تقتسم مع غيرك آخر درهم معك لا تحسد الناس أو تكرههم لأنك طيب القلب، لكن مشكلتك كي أكون صريحاً معك هي أنك لست مثقفاً».
على الجانب الآخر، وفي مارس (آذار) 1941 قضت الكاتبة الشهيرة «فرجينيا وولف» نحبها منتحرة غرقاً، لكنها قبيل انتحارها بساعات جلست لتكتب رسالتيها الأخيرتين إلى «فانسا» وزوجها العالم الاقتصادي «ليونارد وولف». تقول في رسالتها لزوجها: «إني أحس بأني سأجن وليس في مقدوري أن أبقى على ظهر الأرض في هذه الأوقات الرهيبة. أنا أسمع أصواتاً ولا أقوى على حصر فكري في عملي، لقد قاومت هذا الشعور ولكني عاجزة عن الاستمرار في هذا الكفاح. إني مدينة لك بكل ما تمتعت به من سعادة في هذه الحياة، فقد أحسنت إلي كل الإحسان، ولست أستطيع البقاء لأفسد عليك حياتك».
*الشرق الأوسط