رسلان عامر: تناقض مفهومي الشعب والفرقة في الدولة الديمقراطية

0

في مجتمع تتعدد فيه البنى الفئوية ما دون الشعبية، وتسود فيه الذهنية التقليدية المقترنة باعتبار الهويات الفئوية شيئا فيصلا بين الجماعات المختلفة، يتخذ مفهوم الشعب معنى تركيبيا، وكأن هذه الجماعات الفئوية تصبح أجزاء يتكون منها الشعب كبنية مركبة، ومصطلح “مكونات الشعب”، هو مصطلح بات يتكرر تردده على أسماعنا منذ بدايات الانتفاضات العربية ومحاولات التغيير والتحديث المرتبطة بها، وهذا المصطلح يستخدم ليس فقط على المستوى الشعبي، بل على المستويات الثقافية، وليس من النادر أن يستخدم حتى من قبل نخب ثقافية.

وعلى الساحة السورية اليوم كثيرا ما نسمع أحاديثا أو نقرأ نصوصا تستخدم فيها عبارة “الشعب السوري بكافة مكوناته” وما شابه، والمقصود بالمكونات هنا بالطبع الأديان والطوائف والإثنيات والقبائل الموجودة في المجتمع السوري، وبهذا المعنى تصبح هذه المكونات عبارة عن مركِّبات يتركب منها “الشعب السوري”، الذي لا يعود له بنيته أو تكوينه الخاصين أو المستقلين خارج إطار هذه “القطع الفِرقية”، ما يجعل الشعب السوري بهذا المفهوم تابعا لهذه الفرق ومقيدا بوجودها وخصوصياتها، كما يتقيد كل ما هو مركب بالعناصر التي يتركب منها، وهكذا يتحول الشعب السوري إلى مجموعة من “الفِرق” الطائفية والعرقية.

هذا المفهوم التركيبي للشعب، الذي يجعله مجموعة جماعات مختلفة، له مخاطره الكبيرة!

فبهذا المعنى لا يكون الشعب كيانا قائما بذاته، وإنما يكون قائما بغيره، أي بالفرق التي يتكون منها، ويصبح وجود واستمرار المكونات التركيبية الفِرقية ضروريا لوجود واستمرار الشعب المركّب، فالشعب هنا ليس لديه بنيته وطبيعته الخاصتين به والمستقلتين عن أية فرق أيا كانت طبيعتها بحيث يكون قائما بذاته، ووضعية الشعب هذه تشبه الحي المكون من عدة مبان مثلا، فإن انتفى وجود هذه المباني ينتفي معه وجود الحي ككل!

وهكذا تتخذ هذه البنى الفرقية طابعا ووضعا حتميين وسرمديين بالنسبة للشعب، الذي لا يمكنه أن يوجد ما لم تكن مثل هذه الفرق موجودة، وهذا يعني ترسيخ وجود هذه الفرق كفرق، لأنها العناصر التي يتركب منها الشعب، وبناء على ذلك يصبح من الضروري جدا بقاء الطائفية والعرقية وكل فِرقية أخرى، لتبقى كل هذه الفرق، وبكلمات أخرى يصبح من الضروري تماما بقاء كل “عنصرية” لكي تحفظ “العنصر المرتبط بها”، الضروري بدوره بنفس القدر لقيام “التركيبة الشعبية” المسماة “شعبا”!

هذا الخطر المتمثل ببقاء وترسيخ الحالة الفِرقية، وتأسيس “الحالة الشعبية” على أساسها، من المحتم له أن يكون له مفاعيله المماثلة على كل ما يرتبط بالشعب ودوره وأدائه، وعندما يتعلق الأمر بالديمقراطية مثلا، فالديمقراطية بما هي “حكم الشعب”، تتحول في هذا الوضع إلى حكم “مجموعة من الجماعات الطائفية والعرقية”، التي لا مفر عندها من أن تنعكس طائفيتها وعرقيتها على عملية الحكم بأقوى الأشكال، وعندها تتحول هذه الديمقراطية إلى “نظام محاصصة”، وتتوزع فيها الحصص وفقا للقوى، فتفوز الفرق الأقوى بأكبر الحصص من مائدة السلطة ولا يبقى للفرق الضعيفة منها إلا البقايا والفتات، وهذا ما ينسحب بشكل مماثل على كافة ميادين المجتمع!

بهذا الشكل تترسخ الحالة الفرقية ويبنى على أساسها نظام المحاصصة السلطوي، الذي  يزيدها بدوره رسوخا وقوة، وفي المحصلة لا يعود هناك فعليا لا شعب ولا دولة ولا وطن، فلا وحدة شعبية تتحقق، ولا هوية وطنية تتطور، ولا دولة حقيقية تبنى، وكل ما ينتج هنا هو تحاصص سلطوي فرقي عالي المخاطر، مكرَّس ومكرِّس للتخلف، وهو في حقيقته ليس أكثر من حالة تهادن بين بنى فرقية قوية العصبية ومختلفة المصالح، ولا يمكن تحقيق أية حالة من الانسجام والترابط القويين بينها، وستبقى هذه الحالة حالة هشة مضطربة متوترة، ومهددة دوما بالتفكك والنزاع، وعدا عن ذلك، هي حالة منتجة للفساد، فهي لا تستطيع قطعا إنتاج الدولة المتطورة القوية التي تقود المجتمع وتحل مشاكله وتطوره، وتحميه من الفساد والفاسدين، فالدولة هنا لا تعود أكثر من سلطة هشة لضمان مصالح أطراف مختلفين لا يهم كلا منهم إلا مصلحته الخاصة، وليس لدى أي منهم فعليا اهتمام حقيقي بالمصلحة العامة المتمثلة بمصلحة الشعب والدولة والوطن.

وفي هذه المحاصصة التي يكون فيها الشعب غير موجود فعليا، لا يعود له وجود حتى على مستوى الفِرق الداخلي، التي يكون فيها دور عامة الناس مغيبا هو الآخر، فالبنى الفرقية هي عادة بنى زعامية، حيث تقتضي كل فرقة بطبيعتها أن يكون لديها نواة زعامية، تتمحور حولها بنية الفرقة وتخضع لمشيئتها.

وهكذا في هذا المنظور الفرقي وما يتبعه من مفاعيل، لا تكون النتيجة إلا تكريس التخلف والتجزئة والانقسام، وكل الشرور المرتبطة بها!

بالمفهوم الديمقراطي، ليس هناك شعب مركّب يتكون من جماعات، فالشعب ديمقراطيا يصبح هو نفسه جماعة بسيطة مكونة من أفراد، أفراد يدخلون في “جماعة الشعب”، بصفتهم أفرادا مستقلين وليس بصفتهم عناصر من “جماعات أخرى”، وهذا يعني أنه على المستوى الداخلي لهذه الجماعة لا يكون ثمة أي حضور للجماعات الأخرى، كما هو الحال فعليا في كل واحدة من تلك الجماعات الفئوية بحد ذاتها، فكما لا يمكن للشخص في الانتماءات التقليدية أن يكون منتميا إلى طائفتين دينيتين بنفس الوقت، ويقتضي منه وحدانية الهوية والانتماء على مستوى العقيدة الدينية المحددة، فهو كذلك لا يستطيع أن يكون منتميا للطائفة ومنتميا للشعب بنفس الوقت على مستوى انتمائه للشعب، الذي يقتضي منه وَحدة ووِحدة الهوية على مستوى الشعب، وفصل الطائفة عن الشعب، والفصل بين الانتماء إلى الشعب والانتماء إلى الطائفة، وعدم خلط هويتيهما، وما ينطبق على “الطائفة”، ينطبق على أية فرقة أخرى!

وببسيط وصريح الكلام هذا يعني في الحالة السورية، أنه على مستوى الشعب السوري بمفهومه كشعب، يجب ألا يكون هناك أية صفة هويوية فرقية يتحدد بها انتماء الفرد السوري إلى هذا الشعب، الذي يجب ألا ينتمي إليه أحد بصفته عربيا أو كرديا أو آشوريا، مسلما أو مسيحيا، سنيا أو شيعيا أو علويا أو درزيا، أو غير ذلك، فهذه الهويات يجب ألا تدخل نطاق هوية هذا الشعب، وعليها أن تبقى خارجا، لأن هذا الشعب لا يمكنه أن يكون شعبا إلا إذا كان له هوية واحدة هي الهوية الوطنية السورية!

وبهذه الهوية السورية الواحدة الموحَّدة الموحِّدة، يمكن لهذا الشعب أن يبني دولته الوطنية الديمقراطية، التي لن يكون فيها على مستواها المؤسسي أي وجود للهويات والجماعات الفرقية، فتكون الدولة بهذا المعنى مستقلة ومنفصلة بشكل تام عن كل أشكال الفرقية الدينية والقومية والحزبية وما شابه!

مثل هذه الدولة تكون فعليا دولة الشعب، ولكنها تقتضي أن يكون الشعب شعبا بحد ذاته، وهذا يعني أن يتمكن هذا الشعب من تطوير منظوره وفهمه لنفسه، بحيث يرى ويفهم نفسه بأنه رابطة وطنية بين أفراد توحدهم الإرادة والمصلحة المشتركتين لبناء مجتمع إنساني، يستطيعون فيه أن يحيوا حياة إنسانية كريمة وأن يطوروا آفاق وجودهم الإنساني!

وكما نرى فالفرقة ليس لها أي وجود على مستوى الدولة الديمقراطية، التي تقوم على مفهوم الشعب ذي الهوية الذاتية الواحدة، البسيطة والمتجانسة، وبالتالي فالفرقة أو الجماعة الهويوية الفئوية لا يكون لها هنا أي دور أو حضور بين الفرد والشعب أو الفرد والدولة، وهي لا تلعب دور الوسيط بينهم، فالعلاقات بين كل هذه الأطراف الثلاثة هي علاقات مباشرة، ومباشرة تماما وحصريا، أما الفرق فتبقى عند هذا المستوى في الخارج، وحضورها فيه يتناقض مع طبيعة الشعب والدولة الديمقراطيين!  

إن أي شعب بالمفهوم الفرقي هو مجرد “مجمع فرق”، وما هو إلا “شعب مع وقف التنفيذ”، وبالطبع لا يمكن لمثل هذا الشعب المعطل” أن يمتلك “دولة شعب”، وسيكون هو الممتـَلك عمليا من قبل سلطة متسلطة تخدم مصالح أربابها وأرباب الفرق المتحالفين غالبا معها.

إذا ما هو موقع الفرق في الدولة الديمقراطية ؟

بالنسبة للدولة الديمقراطية، الفرق ليس لها أي وجود سواء على مستوى الدولة المؤسسي أو على مستوى الشعب، الذي يشكل بحد ذاته جماعة إنسانية غير فئوية قائمة بذاتها، تبني هذه الدولة لتقودها في عملية بناء نظامها الإنساني!

لكن هذا لا يعني أن هذه الدولة تشترط زوال هذه الفرق من الوجود، بل يعني فصلها عن المستوى الرسمي المتمثل بالدولة والمستوى الجمعي المتمثل بالشعب، وإحالتها إلى نطاق حقوق الإنسان، وميدان الشأن الفردي، حيث تقوم الدولة نفسها بحماية حقوق الفرد المواطن فيها بصفته إنسانا، وتضمن له حقوق الاعتقاد والاجتماع والتجمع والتنظيم والانتماء إلى أية هوية تحت السقف الوطني الإنساني، وهكذا يتم التعامل مع كل الجماعات الهويوية كجماعات أهلية، تستمد شرعيتها في الدولة من حقوق المواطنين الإنسانية في هذه الدولة، التي هي نفسها تضمن وتحمي هذه الحقوق.

في هذه الدولة بالطبع، لن يكون ثمة شيء اسمه أكثريات أو أقليات على مستوى الدولة كمؤسسة والشعب كجماعة مجتعية موحدة، فكل الفرق لا يكون لها حضور هنا، وحضورها كثر أو قل، فميدانه هو الصعيد الفردي، ولا يعتبر شأنا رسميا أو جمعيا ولا يكون له أية مفاعيل على هذين المستويين.

هذا يعني أن هذه الدولة الديمقراطية، التي تتعامل مع كل مواطنيها كأعضاء متساوين في جماعة الشعب الواحد، هي الحل الحقيقي لكل مشاكل الهويات والأقليات، لأنها عمليا لا تبقي مكانا لتتواجد وتنشط فيه مثل هذه المشاكل.

هذا ما علينا أن نعيه جيدا كسوريين، وما معناه أننا سوريون فقط كسوريين، ولسنا طوائف وأعراق وملل ونحل، فإما أن نكون سوريين بهذا المعنى ويكون لدينا مجتمع ودولة جديران بإنسانية العصر، أو لا نكون سوريين، ونكون فقط فرقا متعصبة متشرذمة متخارجة مع الإنسانية والعصرية. إن الفرقة “فرقة” كما يوحي اسمها، أما الشعب فهو وحدة، ووحدة الشعب عندما تتم بشكل يتم فيه تجاوز الفرق، فالفرق عندها تصبح هي نفسها امتدادات واتساعات ثقافية لهذه الوحدة الإنسانية، أما “مجمع الفرق”، فهو يبقي حالة التفرق، ولا يصنع وحدة إنسانية، وبلا هذه الوحدة لن يكون هناك تحقق وتطور لإنسانية الإنسان فردا ومجتمعا.

*خاص بالموقع

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here