نبيل سليمان: رسالة في الثورة… والزلزال

0

يقال في الذم فلان عفلق زمانه، والمعنى في بطون (المعاجم) ولا علاقة له بكنية كبير مؤسسي حزب البعث ميشيل عفلق. ويقال في الذم أيضاً فلان عفلط زمانه، والعفلط هو الأحمق. فمن هو هذا الكاتب السوري الذي استحق هذين اللقبين بجدارة كما سيتبين.  هي انتفاضة وحراك.. هي ثورة وزلزال: تكاثرت وتناحرت الأسماء التي أُطلقت على ما جرى في سورية منذ عام 2011. وقد كنت من بين من قالوا بالفم الملآن، بلا لجلجة ولا جمجمة، أي ممن كتبوا: الانتفاضة، الحراك، الثورة السلمية، سحابة عام 2011، وبخاصة خلال الشهور الستة الأولى من الزلزال/ الثورة. كما كنت من بين من اعترضوا بالفم الملآن، بلا لجلجة ولا جمجمة – أي ممن كتبوا – على أمرين: الأول هو مواجهة النظام للسلمية بمختلف أشكال ودرجات القمع والعنف، والثاني هو تصاعد الأسلمة والعسكرة. وباقتراب نهاية عام 2011 باتت السلمية ذكرى ماجدة وحزينة ومدمّاة، وبين الثورجيين ودعاة القتال والجهاد والعنف من جعل السلمية سبّةً وجبناً وخدمة للنظام.  رحم الله غاندي السوري، غاندي العربي، داعية اللاعنف:  الشيخ جودت سعيد. في تلك الأيام القريبة جداً، البعيدة جداً، وبينما راح القول بـ (الثورة) يتفرد، بدأت أقول/ أكتب: الثورة المغدورة – وأترحم على تروتسكي – والثورة المهزومة، والتحول إلى الحرب. واستقر بي القول منذ عام 2012 على (الزلزال). وقد ندر من استخدم هذه الكلمة/ المصطلح. ومن هذه القلة إسلام أبو شكير في حوار أجرته معه ميسون أبو شقير (ضفة ثالثة 29/2/2017)، حيث تردد في الحوار أيضاً: المقتلة السورية، المذبحة السورية. كما كتبت الشاعرة رشا عمران: “ما حدث في سورية خلال العقد الماضي أشبه بزلزال”، وكتبت أيضاً “الهولوكست السوري”، وذلك في (ضفة ثالثة 24/2/2022). ومن لبنان كتب الشاعر والناقد سلمان زين الدين عن “ترددات الزلزال السوري ما برحت تجذب الروائيين السوريين” في (اندبندنت عربية 26/2/2022).  من فضل القول أن كثيرين يستخدمون كلمة (الزلزال) للتعبير عن حدث جلل سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي. غير أن زمن الغرائب والعجائب في سورية طلع بمن أقام الدنيا على رأسي ولا يقعدها منذ عام 2015، لأنني أكتب (الزلزال) وليس الثورة. والطريف أن عفلق زمانه يسوق كل ما يسميني، دون أن يذكر اسمي. وها أنذا أيضاً أحذو حذوه، فلا أسميه في هذا التعقيب أو الرد الأول عليه. على غرار محكمة أمن الدولة أقام عفلط زمانه محكمته. وكما تسوق تلك المحكمة اتهاماتها وتعلل عقوباتها بتوهين المتهم لعزيمة الأمة، والنيل من هيبة الدولة، يسوق عفلق زمانه اتهاماته ويعلل عقوباته، كما سيلي بيانه، مع التنويه بأن تهمة النيل من هيبة الدولة تغدو في محكمة أمن العفلق العفلط: النيل من هيبته هو، فهو الحاكم بأمر الثورة وبأمر الرواية والثقافة.  لم يملّ هذا الحاكم من الترديد بأن قولي بالزلزال هو خدعة، وهو غموض متعمد، وليس تقية، بل فبركةُ توصيف يذهب بالثورة إلى الإرهاب. ولم يملّ هذا الحاكم من الترديد بأن الزلزال من الطبيعة، مما يمكن تفسيره بيولوجياً، بمعنى عودة الطبقات، أي الأمور، إلى وضعها السالف، لكأن الزلزال الطبيعي أو السياسي او الاجتماعي أو الاقتصادي لا يقلب عاليها سافلها، فلا تعود الأمور هي الأمور، ولا يعود للأمور سالف تعود إليه. ويمضي الحاكم في حذلقته إلى أن تكريس القول بالزلزال يلغي الثورة، وبالتالي: ما من جريمة ولا مجرم محدد ولا… ولا روسيا ولا إيران ولا حزب الله. فهل يحق لأحد أن يتساءل عن اكتفاء هذا الكاتب الحاكم بأمر الثورة بذكر هذه الاحتلالات الثلاثة وإغفال بقية الاحتلالات: الأميركي والإسرائيلي والتركي؟ ولماذا يتحاشى بخاصة الاحتلال التركي؟ لماذا لا يقلد ضحيته التي تقول بالزلزال، فيسمي جميع الاحتلالات بأسمائها غير الحسنى؟  

نبيل سليمان

وبعد، فها أنا أكتب: الثورة، فهل سيعفو عني العفلق العفلط أم يخفف عقوبتي؟ ولكن، إن فعل في واحدة من غفلاته، أفلا تنزع فعلته ورقة التوت عن محكمته؟ أصل الحكاية:  أصدر الحاكم بأمر الثورة (فريدة العصر ويتيمة الدهر)، أي أصدر رواية/ معجزةً عام 2014. وبعد شهور قرأتها، وأذهلني كما آلمني ما بدت عليه من محاولة قاصرة ولاهثة لإرسال قولها في الزلزلة/ الثورة، وبخاصة أن هذا العفلط كان قد أصدر عدداً من الروايات خلال عشرين سنة، بدا أغلبها إنجازاً مميزاً في الكلاسيكية الروائية. وقد كتبت عن بعض تلك الروايات محللاً ومحتفياً قبل أن ألتقي بصاحبها بسنوات، كما أشرت إلى نتوء الطائفية في واحدة منها.  لقد كتبت عن تلك المعجزة الروائية للحاكم بأمر الثورة، ملاحظاً وفرة وغلظة الملخصات السردية الإخبارية، وطغيان الإيديولوجي والسياسي على الفني والجمالي، والعماء  الذي يضرب رؤية الرواية، ومن ذلك الدعوة إلى محو الدولة الظالمة من الوجود – مما يذكرّ بصنيع بريمر في العراق – وموحّداً بين الدولة والسلطة. ومن العماء بخاصة ما سحج به الخطاب الروائي الطائفي، كأن يحكم بأن النظام يسّر كل شيء للعلويين، وبأنه ما من معارض علوي أو من منبت علوي إلا بتدبير من النظام، أما الإسلامي السلمي فهو كالإسلامي المقاتل: ضحايا للعلويين. دأب هذا الكاتب الثورجي على التنظير لكتابة الرواية السياسية، وعلى المفاخرة بما يكتب منها. وحسبي هنا أن أذكّره بما كتب ممدوح عزام حيث رجّح أن النصوص التي كتبت من أجل خدمة السياسة، كانت تفتقر دائماً إلى الحس الإنساني، والسبب أن القضية السياسية تحجب الكثير من المسائل الأخلاقية والإنسانية التي يتعامل معها الأدب، بوصفها مادة الحياة. فالسياسة لا تحفل بالحياة أو الروح أو بالمثل والقيم. وثمة أعمال كثيرة كُتبت لخدمة السياسة، ولأنها تفتقر إلى الصدق والجودة فهي تخرج من تاريخ القيمة الجمالية. وأظن أن النموذج السوري الأمثل لكل ذلك هو رواية العفلق العفلط التي عرّتها كتابتي عنها قبل سبع سنوات، فجن جنونه إلى هذا اليوم.  لأنني أقدر المسافة بين النص وصاحبه، ولا أطابق بينهما، فقد بدأت ما كتبت عن فريدة العصر ويتيمة الدهر بما ذهب إليه الناقد الروسي الديمقراطي دوبروليبوف (1836 – 1861) من أن العمل الفني قد يكون تعبيراً عن فكرة معينة، ليس لأن هذه الفكرة كانت لدى المؤلف أثناء إنجاز عمله، بل لأنه تأثر بملامح معينة في الواقع، وانبعثت عنها تلك الفكرة بطريقة تلقائية. ومؤدى ذلك في حالة عفلق زمانه هو أن ما تنبض به معجزته الروائية من الطائفية، ليس فكرة مسبقة له وعنده، بل جاءت بفعل تأثره بملامح معينة في الواقع السوري، حيث الطائفية موجودة قبل الثورة وبعدها، ولا تتعلق فقط بالعلويين. وهي ما تناولته روايات عديدة قبل الزلزال وبعده، ولكن، غالباً جداً، من منظور نقدي، وفي رؤية تحليلية وتاريخية. وقد عالجت كل ذلك في كتابي (أخيولات روائية للقمع والطائفية – 2015) سواء في الروايات ذات الصلة التي صدرت قبل الثورة أم خلال السنوات الأربع التي كانت قد تلت الزلزال. والمهم أن الحاكم بأمره ما إن قرأ ما كتبت عن روايته حتى تفجرت غضبته من مقالة أو زاوية إلي حوار، ولمّا تزل.  في سورية كما في غيرها كانت المعارك الفكرية والأدبية سجالاً وتفاعلاً، قد تعلو فيه الحرارة أو تميل به الشخصنة قليلاً، لكنها تترفع عن السوقية والتخوين والتشكيك. وقد كان من ذلك كتاب عادل أبو شنب (من معارك النقد الأدبي في سورية في الخمسينات – 1984) وكتاب (معارك ثقافية في سورية – 1980) وهو من إعداد وتقديم بو علي ياسين ومحمد كامل الخطيب وكاتب هذه السطور. ومن ينسى كتاب (معارك فكرية – 1950) لمحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس؟ غير أن استفحال الديكتاتورية كاستفحال الحرب أزاحا المعارك الثقافية، وأحلاّ محلّها مثل هذا الهراء والسخف الذي تتفجر به غضبة العفلق العفلط والذي نسي أنه أهداني رواية له كانت قد صدرت في بيروت في أيار 2011، وقد أرخ الإهداء في 4/7/2011، أي بعد ثمانين يوماً من الانتفاضة/ الحراك، وكتب في الإهداء: “العزيز نبيل سليمان مع خالص المودة”. كما نسي أنه لم يتحدث عني بكلمة سوء واحدة حتى 2015 عندما كتبت عن طائفية روايته.  ومن اللافت أن كاتبة واحدة لا تفتأ تصفق له كلما تجددت جعجعته، وقد كانت هي الأخرى حتى سنوات قليلة مضت تتغنى بصداقتي، قبل أن تتحول إلى (كاتبة أمنية) بامتياز، فلا تذكر كاتباً موالياً في الداخل بسوء، بل وتنال التكريم في الداخل في أمسٍ غير بعيد، بينما تخصّني بسعار حملتها كتابعة قميئة.وبعد، أليس كل ذلك الشقاق والنفاق من عقابيل الهزيمة؟ أليس الآولى هو ردع النرجسية، ومواجهة الواقع المرير، والمراجعة، والاعتبار، والموقف النقدي؟  

صحيفة النهار اللبنانية