ناسان إسبر
كاتب وفنان تشكيلي سوري مقيم حاليا في استراليا
مجلة أوراق العدد 12
قصص
أخيراً حصلت على ربطتي خبز، كان إقناع الموزع أمراً عسيراً لولا أن أهل الحي شهدوا بأن لي أختاً محاصرة في بيتها، وأنها ربما لم تحصل على الخبز منذ أسبوع.
عدت إلى البيت كأني أحمل رأس كليب، هللت زوجتي لرؤية الربطتين، ولكنني قلت لها: “الربطة الثانية ليست لنا”، سألت بفضول: “لمن”، قلت بحياء: “إنها لأختي”.
امتقع وجهها وحشرجت بصوت ضعيف: “لا، أرجوك”، قلت لها: “لا تقلقي، سأجد طريقة آمنة لإيصالها لها”.
الطريق إلى بيت أختي يمر عبر الشوارع والأزقة القديمة، كان علي أن اجتاز “خان الدروبي” شمالاً، لأن الطريق الجنوبي مسدود بالأنقاض، سأنحرف يساراً نحو حي “الصفصافة” وصولاً إلى “ظهر المغارة” و “حي الخضر” كي أنتهي عند جامع “الزعفران”، أعبر بعدها شارع “نهر بيت شتور” العريض، كما كانت تسميته القديمة، حيث يقع البيت في الطرف الآخر، وهنا تكمن المشكلة..
هناك سأكون تحت القلعة تماماً حيث يكمن القناصة وتربض المدفعية وقاذفات الهاون في الأعلى.. في هذا المكان سقط الكثير من الشهداء، ومنه تقصف كامل حمص القديمة.
قلت لزوجتي: لا بد أن أهل الحي قد ابتدعوا طريقة ما للعبور، ولعل هنالك من يعرف طريقة لإيصالها، وفي كل الأحوال لن أدخل ممراً لا عودة آمنة منه.
حملت الربطة، وقبل أن أخرج رسمت زوجتي على جبيني إشارة الصليب، وودعتني بحرارة قائلة: أرجوك، لا تتركنا وحدنا.. وعدتها خيراً وذهبت.
كان على أن أمشي “الحيط الحيط” وأقول: يارب السترة، من القذائف التي يمكن أن تسقط في أية لحظة، لم تمر علي قبل هذه الأيام فترة أحببت فيها الحياة كما أحبها الآن كيلا أخذل أطفالي، كان علي تجنب الأماكن المهدمة والمكشوفة كيلا ترصدني إحدى الحوامات فيقصفون المنطقة بعد دقائق.
في الطريق تجنبت المرور بإحدى الخرائب المفتوحة على السماء، والتي تحولت إلى مقبرة مؤقتة، لكني عرجت إليها عندما سمعت صوت “أم تغريد” تناجي طفلتها، كانت تجلس قرب قبرها، تتشاطر معها الطعام، قالت لي: إنها جائعة، لم تأكل منذ يومين.. قلت لها: ولكن احذري الحوامات، فردت: لا تقلق، لن يروني، أنا ألبس جلباباً بلون التراب.
تغريد اخترقت جسدها شظية من زجاج النافذة إثر انفجار قذيفة جانب بيتها، ولم تنفع كل المحاولات لوقف النزيف، كما لم يكن بالإمكان نقلها للعلاج بسبب الحصار الخانق.
كان التنقل أمراً في غاية الصعوبة بسبب وعورة الطريق، فالأنقاض المهدمة تملأ الطرقات، وكثيراً ما كان علي أن أعبر داخل البيوت المهدمة في أنفاق فتحها الناس من أجل المرور وتجنب الانكشاف، لقد عانينا كثيراً في فتحها لأن الجدران الغليظة لحمص القديمة مبنية من الحجر الأسود، وفي كل مكان حولي ترك الناس أغراضهم وذكرياتهم المتربة لأنها تلفت بفعل القذائف أو التخريب.
وصلت إلى جامع الزعفران الذي نال نصيبه من القصف، فجأة انبعث من مكان ما نحيب قوي أشبه بالعواء المبحوح لذئب، بادرني شخص يعزّل الأنقاض قائلاً: لقد فقدت عائلتها بكاملها.
جالت في بالي ذكرى بعيدة عندما كانت المآذن تنتهي من الأذان عند صلاة الفجر، بينما يطيل مؤذن جامع الزعفران أداء أذانه إلى الضعف، كان صوته يصدى وحيداً وبعيداً في الليل، وكان شجياً مثل نحيبها.. سألت أمي ذات ليلة عنه، قالت وفي ذهنها قصة حكتها لي: إنه صوت الغزالة تبكي وليدها الذي ضاع لأنه لم يسمع الكلام.. وقضيت بضع سنوات تالية أبكي مع الغزالة في الليل وليدها راجياً أن تجده..
ذات مرة مررت مع والدي قرب الجامع فسمعت وأدركت الحقيقة..
بعدها لم تعد الغزالة تبكي، لقد مات المؤذن.
اجتزت الجامع بحذر شديد، فقد نبهني الناس القلائل الذين التقيت بهم إلى خطورة المكان، سألتهم إن كان بالإمكان عبور الشارع، فحذروني بشدة: ستكون في مرمى القناصة مباشرة، سألت إن كانت هنالك طريقة لإيصال الربطة، فقال أحدهم: عليك أن تنتظر أن يرمي لك شخص من الطرف الآخر بحبل رفيع مع ثقل، ومن الأفضل أن ترفقها بورقة.
جانبت آخر جدار يعامد الشارع وتلطيت قربه، وجدت قربه حبلاً رفيعاً مع قفل صدئ، وكان علي أن أميل برأسي قليلاً كي يكون باستطاعتي رؤية الحي الذي يقع فيه بيت أختي، دون أن أنكشف للقلعة، لعلّي أجد من يرمي لي حبلاً من الطرف الآخر.. ولكن.. مهلاً.. غير معقول.. يا للهول..
أين هو البيت؟.. لا بل أين الحي؟.. لم يكن هنالك إلا الردم والأنقاض.
احتضنت ربطة الخبز، وانهرت على الأرض، وانخرطت في بكاء مرير.