لم استيقظ نتيجة اهتزاز السرير أو سقوط الأشياء من على الرف كما حدث لملايين كانوا غارقين في أحلامهم المتعبة، فوجدوا
أنفسهم، وبلحظة، في كابوسٍ “آخر”. غيرهم أكملوا نومهم في بيوتهم التي انطوت عليهم؛ تلك البيوت التي نجت من الدمار
والقصف والنهب، لكنها لم تنجو من رقصة الأرض.
لم استيقظ من كل هذا لأني ببساطة في الطرف الآخر من خاصرة هذه الأرض المجنونة؛ وهذا وحده يكفي ليولّد فيّ “عقدة
الذنب” وما أغرب هذه العقدة، واسمها عقدة، أي أنها معقودة فينا، تعقد معصمنا وأقدامنا بكل ما هو مؤلم وحزين. إن كنّا في
“الداخل” ندعو ونصلّي للخروج ونعلق في عقدة “لماذا لم نخرج!” وإن أصبحنا في “الخارج” نلوم أنفسنا ونجلدها لعدم وجودنا
مع من هم في الداخل نأكل السياط معهم يومياً.
لم أتعود أو بالأحرى لم أستطع الكتابة عن الحدث وأنا ما زلت فيه وأعيشه سواء بالجسد أو بالوجدان. وكأن أحداثنا
مصائبنا سارية المفعول، تهزّ كياننا ووجودنا، تخاطب المنطق وتنفيه للمجهول. يبدو أننا غرقنا في الواقع حتى بات حلماً،
فإذا استيقظنا منه وجدنا أنفسنا في حلم آخر، في كابوس آخر، وقلنا لأنفسنا إنه ليس سوى فصل آخر … لنتابع…
وبما أني ما زلت أعيش هذا الكابوس، ولو حتى وجدانياً ونفسياً، ففكرت بأني لن أكتب عمّا حدث من منظور سياسي ولا عن
القوى الناهبة والجاذبة للعطف والغضب والحنق. لأن السنين السابقة علمتنا أن أمام الموت والألم لا معنى لكل هذه المهاترات.
وبالتأكيد لن أكتب عن الأخطاء المرتكبة عادة في حملات الإغاثة والتدخلات الميدانية الطارئة. أو أن ألصق بوستاً متعجرفاً
على حائطي الالكتروني يدين ويحاكم هؤلاء الأبطال والبطلات الذين تركوا كل شيء من أجل الآخر. لماذا علينا أن نكون
وبشكلٍ مفاجئ “لجنة تحكيم” وأمامنا زر أحمر ندين به أي فعل إنساني نبيل!
حسناً، ماذا عن الإنسان القديم الذي لم يجد تفسيراً للظواهر الطبيعية، فراح يشكّل آلهة لكل حدث! كم يشبهنا اليوم ونحن نشكّل
صور جديدة لله. الله العادل الذي يحاكم شعبه بزلزال يزلزلهم ويدفنهم أحياء!!! أو الله الذي يراقب وينظر من بعيد بصمت تام،
ولا يتدخل لأن الوقت غير مناسب!!! تأويلات وصور وخيالات عن الله البريء من كل هذا.
لنعد إلى عصر الآلهة والأساطير في تفسير الزلزال، حيث كان الشيء المشترك بينها جميعاً هو أن حيوان ضخم يحمل
الأرض، وأي حركة منه، يسبب زلزالاَ ودماراً رهيباً. ففي تركيا وإيران، الأرض واقفة على قرني ثور، وعندما ينقل الأرض
من قرن إلى آخر، تحدث الزلال والهزّات. وفي الهند سبع أفاعي وغيرها من الكائنات الضخمة.
لكن بالعودة إلى أم الزلازل اليابان وكذلك أم الأساطير الغرائبية، نجد أن الحكاية اليابانية تدور حول السمكة الضخمة
“نامازو”* التي تسبح في باطن الأرض تحت الأنهار والبحار، وتقع تحت سيطرة إله الرعد “تاكيميكازوشي نو ميكوتو” لكن
الملفت في هذه الأسطورة عن سواها، أن نامازو تجلب الخير والثراء بعد كل زلزال بقدر الضرر الذي تسببه!
فكّرت في هذه المعادلة الإيجابية للحكاية. بقدر ما تجلبه نامازو من دمار، تقدم مقابله ثراءً وتعويضاً. وكأن الشعب الياباني
يرثي ويعزّي نفسه لما يحل به بعد كل زلزال. أو أن الزلزال كان يسبب فيضاناً طفيفاً في الأنهار، فينتج عن ذلك أرض
خصبة ومحصول جيد!
أما في حكاية “نامازو السورية” فإن الخراب والدمار هما سيدا المواقف دائماً، لكن هذه المرّة جلبت دماراً هائلاً وكذلك خيراً
كبيراً أيضاً. فقد شهدنا الملايين تتدفق من كل حدبٍ وصوب، غاضّين الطرف عن كل الترهات التي تحدّثنا عنها سابقاً. دعماً
مادياً رائعاً ترفع له كل القبعات وتسقط أمامه كل الأسلحة والوحشية. عطايا “نامازو السورية” السخية كانت حقيقية هذه المرة،
تخطت فشل وعقم الأنظمة، تخطت الخطط والاجتماعات السرية وتمثيلياتها الرديئة. تخطت إمكانيات الدول وأثبتت مجدداً أن
الناس للناس.
لكن السؤال، هل نامازو تلك تعرف بأمر الحيتان الذين يسبحون على وجه الأرض، يأكلون عطاياها السخية، ويعيثون خراباً
أشدّ وقعاً من خراب ذيلها! الحيتان الذين لم يكتفوا بأكل الحجر والبشر، بل راحوا ينادون “برفع العقوبات” ليلتهموا كل ما يأتي
من الخارج، من عطايا نامازو.
رجاءاً أخبروا “نامازو السورية” بأنها تسببت في الدمار فقط هذه المرة، وأن محاولتها في الاعتذار لن تصل في غالب الأمر،
لأن عندنا نامازوات أكبر بذيول كبيرة تلطمنا وتلطمنا، لكننا في النهاية.. لا ننهار!
- Cartwright, M. (2023, February 8). Namazu. World History Encyclopedia. Retrieved February
9, 2023, from https://www.worldhistory.org/Namazu/