سحب عادل شهيقاً عميقاً بعد أن غسل وجهه بالماء. نظر إلى نفسه بالمرآة القذرة معايناً آثار الكحول ودخان السجائر على خديّه الكرويتين، وتلك الحفريات السوداء تحت عينيه البنيتين الكبيرتين. مسح وجهه ببعض المحارم الورقية الرخيصة، رماها بالسلة دون أن يتأكد من إصابة الهدف. صفف شعره السبل الأسود الكثيف بحركات رشيقة من أصابعه، أصلح قبة القميص، وأعاد نهايته إلى داخل البنطال. نظر إلى سحاب بنطاله ليتأكد بأنه مغلق، وإذ بقصاصة ورقية مطوية مستلقية بقرب حذاءه كقط نائم.
فتح الورقة .. لم يجد سوى رقم هاتف خلوي مكتوب بخط اليد، دون أي اسم أو تفاصيل أخرى. ابتسم ابتسامة تفوح ُ منها رائحة التعريص والخمر والتبغ. بخفّة، سحب هاتفه وطلب الرقم. أثناء رنين الهاتف، اصلح قبة القميص مجدداً، صفف شعره وكأن العاهرة، المفترض أن تكون على الطرف الآخر من الهاتف، ستظهر أمامه بمجرد الإجابة على اتصاله. انتظر طويلاً، حاول مرة أخرى، إلى أنه ضحك على نفسه مبرراً عدم الرد سببه انشغال الحسناء بزبون آخر في هذا الوقت من الليل. زبون أفضل منه، قد دفع لها ثمن ليلة كاملة، بدلاً منه الذي كان سيدفع ثمن ساعة واحدة على الأكثر. عصر الورقة بقبضته، ثم رماها أرضاً بعيداً جداً عن سلة المهملات.
عاد عادل إلى طاولته المعتادة في خمّارة “الأصدقاء.” اشعل سيجارة، رفع يده طالباً الفاتورة التي تم إعدادها قبل رفع اليد. نظر إلى الطاولة المقابلة له، تغيرت ملامح وجهه، وراح ينظر إلى ذاك الرجل باشمئزاز. كان يكره شكل الرجال الذين يأتون ويشربون بوحشية حتى الثمالة والانبطاح على ظهر الطاولة. كانت هيئة الرجل تدل على أنه ليس من روّاد الخمارات أو محترفي الخمر. من الواضح أنه من فئة الهاربين من أنياب الحياة القاسية، الملايين كل ليلة يهربون بخوف وجبن. البعض يفقد السيطرة ويركض بجنون حتى يسقط في حضن الموت. البعض يغرق ولا يعد باستطاعته العودة إلى عالم فيه الكثير من هم بانتظاره والحاجة إليه.
عاد عادل إلى وعيه، بعد أن وضع صاحب الخمارة الفاتورة أمامه مع ابتسامة مميزة لزبون مميز. نظر عادل ثانية إلى ذلك الرجل “المطفي” مقيّماً نفسه. هو الآخر من فئة الهاربين، لكنه من الهاربين الأكابر، أو الهاربين الأحرار، أو… لايهم. هو من تلك الفئة المثقفة التي لم تنفع الثقافة والمعرفة في تغيير سلوكها. يخرج كل يوم بعد الثامنة مساءاً من حاوية هذا العالم، ليدخل صومعته في “خمارة الأصدقاء،” ليدخل كهفه كإنسان بدائي، لا يخرج منه حتى الواحدة بعد منتصف الليل، ليعود إلى شقته الصغيرة وينام مخدراً.
في اليوم التالي، توجّه عادل إلى محل صديقه فارس “مصبغة الأحمر”، صديقه اليساري الماركسي. قام فارس بفتح دكان صغير لصباغة الملابس وكيّها، بعد فشل عدة مشاريع قام بها بعد خروجه من المعتقل الذي دام ثلاثة عشرة سنة. لم يكن يحوي المحل على مكتب أو طاولة كأي طاولة تخص صاحب المحل. كان فارس يؤمن بأن الطاولات والمكاتب ليست للكادحين والبلوريتاريا. كانت الزيارة يومية، لذا كان عادل جزءاً من المحل، بل كان يساعد فارس أيام الأعياد والمواسم في ترتيب الطلبيات والتعامل مع الزبائن، البرجوازيين والأغنياء على وجه الخصوص، حيث كان فارس يواجه صعوبة في التعامل معهم.
انهى عادل فنجان القهوة الثقيلة، وراح يعاين ملمس المعاطف الثمينة بعد الكيّ. يقرأ الأسماء بصوت عالٍ مع تغيير في نبرات صوته محاولاً تحطيم الملل. استوقفته بطاقة معلّقة على معطف جوخ رجالي طويل. في الحقيقة، ما استوقفه هو رقم الهاتف، لا المعطف ولا الاسم ولا أي شيء آخر. شعر عادل أن هذا الرقم ليس بالغريب، قرأ الاسم ولم يعرف صاحبه. لم يكترث للموضوع. سأل فارس إن كان بحاجة إلى مساعدة، أومئ له الأخير نفياً. اشعل عادل سيجارته خارج المحل، بعد أن فتحت تلك القهوة الثقيلة شهيته للتدخين. راح يراقب الشارع الهادئ المزين بالأوساخ وأعقاب السجائر. اخرج هاتفه الخلوي فجأة، بحث بين الأرقام، رمى سيجارته أرضاً ودخل كالريح مثيراً دهشة فارس الذي سأله مستغرباً إن كان بخير أو إن كان مكروهاً حصل في الخارج. لم يرد عادل على تساؤلات فارس، أمسك بالبطاقة التي على معطف الجوخ الرجالي الطويل، قارن الرقم مع رقم الهاتف الذي طلبه البارحة في دورة مياه “خمارة الأصدقاء”… الرقم نفسه!
سأل عادل إن كان المعطف جاهز للتسليم، أومئ له فارس إيجاباً. قرأ العنوان الذي على البطاقة، ليس بعيداً عن المحل. أخذ المعطف وانطلق بسيارته إلى العنوان تاركاً فارس وراءه يصرخ وينادي كالمجنون.
قرع عادل الباب مستخدماً “سقّاطة” قديمة على شكل يد ممسكة بصخرة كروية. قرع الباب أكثر من ثلاثة مرات، في المرة السادسة فتح له رجلٌ في أواخر السبعينيات، طويل رغم حدبته الكبيرة. رأسه الضخم الأصلع تماماً ملفت للنظر، مع الشارب الأبيض الكثيف الذي يغطي فمه وينفرد على مساحة وجهه الأبيض الحليق. تجمّد عادل مكانه رغم حنكته. ابتسم الرجل فأذاب جليد عادل، وأعاده لوعيه بعد أن خابت كل الصور التي في لاوعيه حول بيت للدعارة ومعطف القواد وشخصيات أخرى رسمها في طريقه. عرّف عادل بنفسه وقدّم المعطف للرجل الذي شكره بسرور مبالغ فيه، و قبل أن يُغلق الباب، قاطعه عادل بسؤاله عن الرقم المدون على البطاقة إن كان يخصّه، فقط من أجل خدمة أفضل للزبائن، ومعرفة الزبائن فور اتصالهم بمصبغة الأحمر. أجابه الرجل بأن الرقم هو رقمه الخاص وأن خدمة مصبغة الأحمر ممتازة. شكره مرة ثانية وأغلق الباب.
جلس عادل خلف مقود سيارته مشوشاً. ما المعنى من كل هذا؟ رقم هاتف عجوز في دورة مياه خمارة صغيرة، ومكتوبة على قصاصة ورقية! والأغرب أن الرقم لاحقه وظهر له مرتين في أقل من أربع وعشرين ساعة! أحسّ بدوار في رأسه، أغمض عينيه وسحب شهيقاً عميقاً ومع الزفير أدار محرك السيارة متجهاً نحو خمّارة الأصدقاء.
راح يحرّك قطعة الجليد في كأس الويسكي القصير بيده الممسكة بالسيجارة التي تكاد أن تنطفئ. ثلاث ساعات لم يحرك فيها ساكناً. تتغير الأقداح تلقائياً، وكذلك تُفرغ صحون السجائر من جثثها بحركة هادئة وخفيفة من صاحب الخمارة. كسر شرود عادل، بل وجمّد الدم في عروقه وأطار مفعول الخمرمن نافوخه؛ دخول الرجل الذي كان مبطوحاً على الطاولة ليلة البارحة. في الحقيقة ليس الرجل من أقلق هدوءه وغيّر مزاجه وكسر شروده. بل المعطف الذي كان يرتديه. إنه نفس المعطف الذي أوصله اليوم قبل ساعات. إنه المعطف نفسه، بلونه الغريب وخياطته المتقنة الفريدة. انتظر الرجل أن يختار طاولة ويجلس. لكنه لم ينتظره ليطلب مشروبه، بل توجه نحوه كنمر ماكر يحوم حول غزال شارد.
سحب عادل الكرسي المقابل للرجل وجلس عليه أمام نظرات الاستغراب من الرجل الذي بقي صامتاً. اعتذر منه عادل على عدم الاستئذان بالجلوس وقدّم نفسه على أنه خياط محترف أباً عن جد. وأن سبب اقتحامه لمساحة الرجل الخاصة هو المعطف الذي يرتديه، فقد أثار إعجاب عادل وتساؤله إن كان صناعة محلية. تنهد الرجل ظاناً أن عادل قد أطاح به الخمر وافقده وعيه ورشده، وأنه كباقي رواد الخمارات الذين يقتحمون خلوة الآخرين لأسباب أكثر من تافهة. على الرغم من ذلك، أجابه الرجل باتزان وهدوء أن المعطف لأبيه الذي توفي منذ سنوات طويلة ولم يرث غير هذا المعطف منه وبعض الانتيكات التي لا قيمة لها. اعتذر عادل مرة أخرى ومدّ يده ليصافح الرجل سائلاً إياه عن اسمه. تجمّد عادل مكانه حين سمع الكنية، نعم إنها نفس كنية ذاك الرجل الضخم.
في اليوم التالي، استيقظ عادل باكراً على غير عادته مصمماً على إنهاء لغز رقم الهاتف والمعطف. توجّه إلى بيت الرجل العجوز، الذي فتح له الباب عند الدقّة الخامسة. استغرب الرجل عند رؤية عادل، واستغرب أكثر من طلب عادل للدخول.
جلس الرجلان في الصالون الكبير. أثاث عتيق يدل على الثراء والأصالة. كان الغبار يغطي معظم التفاصيل والأوجه. كما قال له الشاب، انتيكات لا قيمة لها، والبعض القليل ذو قيمة عالية. قاطع الرجل شرود عادل بسؤاله عن إن كان يرغب بفنجان من قهوة، أومئ عادل مع ابتسامة على أنها فكرة رائعة. حاول الرجل النهوض بصعوبة من مكانه، إلا أن عادل رمى سؤاله الذي أقلقه كل ليلة البارحة. ذكر له اسم الشاب الذي قابله في الخمارة ليلة البارحة، وسأله إن كان يعرفه. هبط الرجل على كرسيه بقوة وطقطقت عظام ظهره. تغيرت ملامحه كليّاً وسأل عادل عن سبب سؤاله أو أي علاقة تربطه بالشاب. ارتبك عادل من ردة فعل الرجل موضحاً أنه صديق قديم، وأن العنوان والكنية حركتا ذاكرته الراكدة وأعادت له اسم صديقه. انطلت الكذبة على الرجل الذي بدا حزيناً، وأخذت التجاعيد على وجهه تتراكم وتتجمع بشكل سريع كأنها هبّت لمواساته. مدّ العجوز سبابته باتجاه الحائط دون النظر إليه، نظر عادل إلى الحائط وإذ بصورة الشاب الذي رآه البارحة بالمعطف الذي قام بإيصاله إلى هذا العجوز. وقف مصعوقاً، توجه بخطوات ثابتة نحو الصورة. وسأله إن كان الشاب هو ابنه. فأومئ الرجل برأسه الضخم المائل نحو الأسفل كنخلة مثقلة بالتمر. رفع الرجل رأسه مضيفاً أن ابنه الوحيد قد انتحر منذ ثلاث سنوات.
*خاص بالموقع