قبل البدء في كتابة هذا النصّ، توقفتُ قليلاً عند العنوان. علماً أني أضع العناوين بعد الانتهاء من الكتابة؛
مثل حبّة الكرز التي توضع فوق الكعكة دلالة على انتهاءها وجهوزيتها للأكل. المهم، توقفت عند تسمية
النص “العلاج بالكتابة” أو “الكتابة علاج” وفكّرت في معنى العبارتين.
” العلاج بالكتابة” هي طريقة من طرق العلاج النفسي، مثلها مثل العلاج بالرسم والعلاج بالرقص والدراما
وغيرها من أنواع العلاج التي تكاد أن تكون مفقودة في مجتمعاتنا العربية التي مازالت تؤمن وتعتمد على
العلاج بالحجابات والسحر. “العلاج بالكتابة” أو كما يسمى Narrative Therapy يعتمد على إعادة النظر
في القيم والمبادئ والمهارات ويقوم بتقييمها؛ كذلك سرد المشاكل التي تواجه الفرد والتفكير من خلال الكتابة
في إيجاد حلول أو طرق لمواجهة هذه المشكلات. * وبالتالي، فالعلاج بالكتابة هو مواجهة المشكلة والحديث
(معها) وليس (عنها) وهناك فرق شاسع بين الكلمتين والزمانين والمكانين، ولست بصدد التعمّق في هذا
الفرق الآن لأنه ليس موضوعنا، للأسف.
حسناً، بالنظر إلى “الكتابة علاج” وجدت العبارة وكأنها خبرية! الكتابة ممتعة، الكتابة مرهِقة ومتعبة. إنها
وصف للكتابة بعيداً عن حقل علم النفس وحقول أخرى. “الكتابة علاج” وكأنها نتيجة، كأنها حقيقة لم يرها
الكثير. كأنها وصف للكتابة ككتابة، وصف لسحرها وقواها الخفية وغير الخفية. هذه العبارة باختصار، كأن
يترك أحدهم القلم فجأة ويقول لك: “أف.. الكتابة علاج ولو!”
في عام 2015 كنت مدرّباً لورشة حول تقنيات الكتابة واستخدامها في ابتكار عروض أو تمارين للأطفال
واليافعين. كانت الورشة لمتطوعي الهلال الأحمر العربي السوري في حلب، حيث كنتُ متطوعاً معهم
أيضاً. من جملة تلك الألعاب والتمارين، كان هناك تمرين “كتابة رسالة” والتمرين على الشكل الآتي:
كل شخص لديه قلم وورقة فارغة يكتب في أعلى الصفحة: (إلى عزيزي/تي: اسمه/ها) وفي نهاية الصفحة
(مع محبتي، اسمه/ها) في جسد الصفحة الفارغة سيقوم الشخص في كتابة رسالة موجّهة إلى نفسه دون
التفكير في محتواها وتفاصيلها وهدفها. يبدأ كل شخص بالكتابة عند سماع كلمة “الآن.” في لحظة معينة،
أطلب من المجموعة التوقف وتبديل القلم. فإذا كان أحدهم يكتب باليد اليمنى، عليه نقل القلم إلى اليسرى
وبالعكس. بعد نقل القلم، على الشخص متابعة الكتابة باليد الأخرى. بعدها، يُطلب إعادة القلم إلى اليد
الأساسية وإنهاء الرسالة.
قمتُ بهذا التمرين عشرات المرات والنتيجة كانت دائماً صادمة. الأسطر المكتوبة باليد الأخرى، كانت دائماً
ردّاً أو جواباً لِما قيل من قبل. كانت بمثابة نصيحة أو حكمة أو سرّ يبوح بها شخصٌ آخر لكاتب الرسالة! لم
أطلب من المشاركين/ات قراءة الرسالة حفاظاً على الخصوصية وحرّية الكتابة، غير أن التعابير التي كانت
تعلو وجههم وهم يقرأون الرسالة تفصح عن معجزة، عن سحر!
كشف التمرين حقيقة مشتركة مع جميع الذين اختبروا التمرين. هناك شخص آخر خفي في داخلنا يجيب عن
أسئلتنا الصعبة التي لا نجد لها إجابة أو طريق رغم سهرنا وتفكيرنا غير المنقطع. إنه نفسه نحن! الأسئلة
والأجوبة فينا نحن.
بعض المتطوعين/ات أعجبهم/ن التمرين وقرروا تطبيقه على مجموعة من اليافعين واليافعات أعمارهم بين
الثانية عشر والخامسة عشر. الصدمة كانت عندما قابلت فريق المتطوعين بعد جلستهم وكلّي حماس لسماع
ردود الأفعال وكيف جرى التمرين مع المجموعة. كانت النتيجة مأساوية فمعظم الأطفال لا يستطيعون
الكتابة لأن معظمهم خارج النظام التعليمي ولم يمارسوا الكتابة والقراءة لسنوات بسبب النزوح المتكرر
وتهدّم المدراس وغيرها من الأسباب الكارثية. لعنتُ أبو الحرب ومديرية التربية والنظام التعليمي. لعنت
البرامج المدعومة وغير المدعومة. كنّا نقضي سنوات في برامج الدعم النفسي الاجتماعي والتي اسميها
اليوم “الهدم” النفسي الاجتماعي لأننا كنّا نعظ “من فوق الأساطيح” عن بناء السلام والتمكين والتحفيز
والإنجاز ونحن غارقون في الخراب!
اليوم وبعد عشر سنوات تقريباً من تلك الجلسات، فكّرت في التمرين مجدداً وفكّرت في ذلك “الآخر الخفي”
الذي كان يظهر مع كل شخص بعد انتهاء التمرين. لم نعمل على إخراج الآخر، لم نتحاور معه. لطالما بقي
ذاك الآخر خفيّاً ولم يظهر يوماً حتى ولو بسطورٍ شحيحة وخطٍ سيء. بقي مخفياً منذ أن كنّا في الثانية عندما
قُمعت ال “لا” إضافةً إلى “سد بوزك” و “ولا كلمة، ولا حرف” أو “شو عم تكتب ولاك!”
كانت الكتابة ممنوعة على دفتر الرياضيات مثلاً إلا في ما يخصّ الرياضيات. وعلى دفتر الإنكليزي
يجب كتابة ما يخص الإنكليزي فقط. لم نحاول ممارسة الكتابة خارج حدود الدفاتر المدرسية التي كانت
أغلبها فارغة أو مليئة بقصائد ومحاولات هزيلة لتقليد شعر نزار قباني. كنّا نخاف من تفتيش مفاجئ من
المعلّم/ة أو من الأهل وبالتالي، فقدنا تلك اللحظة التي نتوقف بها عن الكتابة ونقول.. “الكتابة علاج ولو!”
أتذكر اليوم ذلك التمرين وأشعر بالذعر. إن كان الأطفال لا يستطيعون الكتابة، فهم لا يستطيعون التعبير
والتفكير بعمق. تلك الميّزة الفريدة التي تقدّمها الكتابة دون سواها. إن كان “الأنا” غير قادر على التعبير
والتفكير فكيف للـ “الآخر” أن يخرج أو بالأحرى أن نعرف بوجوده وقوة وجوده!
في الماضي كان الآخر الخفي يبقى ضعيفاً لكن على الأقل كانت الأنا تكتب وتقلب الدنيا. اليوم الأطفال قد
كبروا ولم يعد باستطاعتهم لا التواصل مع الآخر الخفي ولا حتى مع الآخر المرئي. كيف لنا أن نكتب
ونتحدّث مع الآخر المرئي إن كنّا بالأساس لم نتواصل أو على الأقل عرفنا بوجود ذلك الآخر المخفي
في اليد الأخرى!
- Hick, S. & Stokes, J. (2017). Social Work in Canada (4 th ed.). Canada: Thomson Educational
Publishing, Inc. p.99.