فنانو النظام السوري سادة الشاشات ومختلف منصات التواصل الاجتماعي هذه الأيام، يتصرفون كما لو أنهم آل الفقيد (الفقيد نفسه الذي أشبعوه سخرية وتنكيلاً وشتماً واتهامات خلال اثنتي عشرة سنة). إنهم يصرخون، ويقرّعون المجتمع الدولي وسائر أقطاب المؤامرة الكونية، أنْ: ارفعوا الحصار عن سوريا كي ننجو من الزلزال.
انتشر فنانو النظام على الشاشات، لا تستطيع أن تفرّق خطاب أمل عرفة عن شكران مرتجى وصفاء سلطان، ولا خطاب عباس النوري وغسان مسعود عن ديمة بياعة (هذه خصوصاً نطقت بعبارة قاتلة: أنا دائماً أقول لنفسي الإنسان يلزمه مصيبة ليوعى، ليوعى أنه عنّا وطن!).
شاشات النظام السوري، والشاشات اللبنانية الرديفة، مفتوحة على وسعها لفناني النظام. وصوت الملقن لا يخفى: رفع العقوبات، وكسر قانون قيصر. يتحدثون على عجل، أصواتهم عالية ونزقة، أو توشك على البكاء، كما لو أنهم يريدون لنا أن نصدق أن يداً لهم على الهاتف، واليد الأخرى ترفع الركام، أو تحمل كرتونة أدوية لمصابي الزلزال.
بالمناسبة؛ هل في إمكانكم إحصاء عدد المرات التي اعتُقل فيها سوريون، عُذّبوا، وقُتلوا، وهُدمت بيوتهم، وهُجّر أهلوهم، بسبب كرتونة أدوية أرادوا إيصالها لجرحى، لم يتجرأوا على الذهاب إلى مشافي «الحكومة» لأنهم يعرفون مصائرهم هناك، فضّلوا الموت على الوقوع بين يدي «الحكومة»؟ عندها فقط عرفنا لماذا مدارس التمريض نسخة من الثكنات العسكرية، ولماذا يكثر الأطباء ذوو الرتب العسكرية.
الاعتقال بسبب كرتونة أدوية، أو حليب وفوط أطفال للمحاصرين، والتهمة تمويل إرهاب، وتوابعها. تجرأ بعض الفنانين في البدايات على توقيع بيان، أقرب إلى بيان مطلبي لا سياسي، يطمح إلى إيصال الحليب والأدوية والمؤونة والماء لدرعا المحاصرة، من فرط مطلبيته سمي ببيان الحليب، ونال نصيباً هائلاً من التهديد والشتم والاحتقار، بعض موقّعيه أُخِذ (عنوةً بالتأكيد، بطريقة أو بأخرى) لتقديم ما يشبه الاعتذار على الشاشة الرسمية. قال مضيفوهم في التلفزيون، عندما سئلوا ما يشربون: ضَيّفوهم حليب، هؤلاء يحبون الحليب. (تهكماً من بيان الحليب). والحمدلله أن الأمور انقضت عند هذا الحد، نفد الشباب بجلودهم، وإلا لكان مصيرهم كما الزملاء الذين لا يعرف الذباب (ولا حتى الذباب الإلكتروني) حتى الآن لهم مطرحاً: الممثل والمخايل زكي كورديللو، وابنه الممثل مهيار، والممثل والسيناريست عدنان زراعي، وسواهم.
كانت سيارات الإسعاف، والمسعفون، أهدافاً أولى لقصف النظام. المشافي الميدانية كذلك، ظل قصف النظام وحليفه الروسي يلاحق أي أثر لمشفى ميداني حتى المتر المربع الأخير من الحدود، وبعض عمليات القصف موثق بالصوت والصورة وبأفلام وثائقية مرموقة.
الخوذ البيضاء (الدفاع المدني السوري)، وهم اليوم السند الوحيد لأكثر السوريين تضرراً، في قرى وبلدات الشمال السوري، كانوا هدفاً صريحاً أيضاً، وعلى التوازي؛ شيطنتهم كانت على رأس الأولويات. وبات معروفاً ما كشفته صحف الغرب عن أن روسيا دفعت ذبابها الإلكتروني إلى استهداف الخوذ البيضاء على الدوام، والسبب لا يخفى، فهم آخر الشهود على جرائم النظام وحليفه الروسي، خصوصاً المجازر الكيميائية في خان شيخون، وفي الغوطة الشرقية. (المجازر الكيميائية نفسها التي سخر منها أبواق النظام الممانع، واعتبروها ملفقة. أمل عرفة خصوصاً مثلت في حلقة تلفزيونية ذلك الدور الساخر).
لماذا علينا أن نصدق هذه المرة لهفة بَوَّاقي النظام السوري بأن دعواتهم إنسانية خالصة، وبعيدة عن السياسة؟ وأن دموعهم تبكي باللوعة نفسها لمنكوبي الشمال السوري (حواضن الإرهاب على رأي نجدت أنزور)؟ هذا إن كانوا يلتاعون في الأساس لأيٍّ كان.
إذاً فقد أعطى الملقن في الغرفة الخلفية أوامره: دعوات لكسر الحصار، فليس أنسب من زلزال العصر فرصة لذلك، مع نفحة إنسانية، وغزل للعروبة النبيلة التي تجمعنا وجمعتنا على الدوام، بعد أن ظلت على مدى العشرية السورية دريئة للشتم والتحقير، وكان العرب يسمون عرباناً. فجأة نجد أنفسنا أمام خطاب أملس، ولغة يتدفق منها الإنسان.
أن تكون الجوقة ذاتها في كل مرة، يؤكد استحالة أن تكون رسالتها عفو الخاطر، فمن شكران، إلى أمل عرفة، وعباس النوري، وزهير عبدالكريم.. بل حتى الأسماء العربية هي ذاتها، فلطالما كانت إلهام شاهين جاهزة، وهي قد ظهرت برسالة صوتية على قناة «الجديد» اللبنانية تقول العبارة الخاصة بها من السيناريو: «باسم الإنسانية أطالب برفع العقوبات عن سوريا». فكلها أصوات مكررة لم تتوان مرة عن الظهور والزنّ، تماماً كما يليق بجيش ذبابٍ إلكتروني مطيع.
الزلزال السوري
كل زلزال، مهما قل شأنه، يثير الفزع، لكن مع ذلك يسهل تصنيفه تبعاً لقوّته، حسب مقياس ريختر إياه، وحسب عدد البيوت والمباني المنهارة، وأعداد الضحايا، قتلى وجرحى، ومشردين.. ثم ما تخلفه الفاجعة من انتكاسات وجروح نفسية، لكن الزلزال السوري، وليس من قبيل اللطم والتفجع، لا بد أنه استثناء عبر العصور، ورغم أنه تركي المنشأ والمركز، إلا أنه يظل في شقّه السوري استثناء.
أن يموت المرء مدفوناً تحت الأنقاض مأساة ما بعدها مأساة، ولكن أن يهجّر من بلده، يُقتل أهلوه، يموت أبناؤه تحت التعذيب، يلاقي ما يلاقي عبر الحدود، في البحر، في سجون الآخرين، ثم، وفي اللحظة التي يتلمس فيها مكاناً، ملاذاً، مُسَلِّماً بكل ما كتب عليه، متخلياً، غصباً، عن حياته السابقة برمتها، مطمئناً إلى شرفة، وحاكورة، وألبوم صور، ورسائل دافئة، وأحلام، تأتي تلك الكرة الضخمة لتصفعه، لتلقي به من جديد، إن بقي على قيد الحياة، على الطريق، إلى ذات السكة التي مشاها منذ اثنتي عشرة سنة، هذا كثير، هذا أكثر مما يحتمله قلب. مهما كان سورياً ومعوّداً على الصّدعات.
*القدس العربي