لا ننكر أن كلام الفنان عباس النوري في إذاعة محلية سورية كان جريئاً بعض الشيء، قياساً للمتاح في سوريا الأسد، غير أنه جاء متناغماً مع موجة باتت مألوفة عند عتاة الموالين بعد خيبات النصر المزعوم. عادي أن تجد من هلّل حتى للكيماوي، أو للبراميل المتفجرة العشوائية، يحتج على ارتفاع الأسعار. لكن عباس ذهب هذه المرة أبعد قليلاً، قال إن حكم العسكر أطاح بالدستور وبالثقافة وبسوريا الديمقراطيات (هكذا بالجمع). وبالطبع كلنا فهمنا أن المقصود بالعسكر حزب البعث وآل الأسد. تحدثَ عمّن أخذ كل ما في البنك المركزي من أموال وغادر البلاد من دون أن يحاكمه أو يحاسبه أحد، ففهمنا أن المقصود رفعت الأسد ومن صمتوا عنه وتركوه (ومَن غير حافظ الأسد!). عيّرهم بأن دَخْلَ الفلسطيني عشرة أضعاف السوري، ففهمنا أنه يقصد أن هؤلاء القابعين تحت الاحتلال الإسرائيلي الغاشم يعيشون حياة أفضل بأضعاف. تكلم عن سهولة إلغاء شاعر وفنان وقد يكون تنبأ لنفسه بمصير عسير.
ذلك الكلام “الجريء” بات مألوفاً، فهو في النهاية ليس سوى نوع من النقّ، صادر عمّن يعتقدون أنهم هم النظام، لا مجرد مناصرين، وبأنه يحقّ لهم التغريد، ثم إن الذي ضرب ضرب والذي هرب هرب، ولم يعد يجدي كلام. ومن الطبيعي أن نفسّر النقّ في المكان المستحيل باعتباره خطة جهنمية، كأن يكون النَّقَّاقُ مقرّباً ومسنوداً من المحتل الإيراني، أو الروسي.
مع ذلك، جوبه النوري بحملة من الاحتجاج والتهديد، وبقليل من التضامن، عندما كتب مثلاً زميله أيمن زيدان متضامناً، ومذكراً لمرتين في منشوره الفيسبوكي بأن الرجل “تحدث هنا في دمشق وقدم وجهة نظره هنا” ، وبأن “لكل منا الحق أن يكون حراً تحت سقف الوطن”، وكأن هذا هو المعيار الوحيد لـ “الوطنية”، أن تكون تحت السقف، فالشر والأشرار كلهم “برّا وبعيد” !
حذفت مقابلة النوري، وقيل إن حيدورةً ما، على الأقل، بصدد رفع دعوى ضد العِبْس، فعرفنا أن الرجل سيُجلَب ويُقاد حتماً إلى الاستوديو من جديد ليفدي كعب صبّاط السيد.
ها هو العِبْس من جديد في الاستديو نفسه، بفارق أسبوع واحد فقط، يؤكد بأن الحكم العسكري المقصود هو حكم سابق، فيما يوضح المذيع أن الفترة المقصودة تمتد فقط من عشرينيات القرن الماضي وحتى السبعينيات. هنا نستنتج، بذكائنا وحنكتنا كسوريين مُجَرِّبين، أن حكم “البعث” والأسدين لم يكن عسكرياً بالمرة، وأن الدستور والديمقراطيات في عهدهم تغيظ، من روعتها، الصديق قبل العدى.
قال النوري إن كلامه يجب أن يفهم في سياقه، وعزا الأمر إلى اجتزاء واختراق ومونتاج السوشال ميديا، قدم اعتذاره من غير لفّ ولا دوران، مؤكداً: “أرفع لهم (للجيش) القبعة، وأنحني أمامهم، لأن دم الشهداء أكبر من خجلي، ومن خجل أي سوري”.
وكرّر تحيته لـ “الجيش المرابط على حدود إدلب”، متمنياً أن يصل “إلى وطنية الجندي على حدود إدلب” .
ألا يخجل سوريّ، وإن كان موالياً، أن يلفظ هذه العبارة “مرابط على حدود إدلب”! أنت تتحدث عن مدينة سورية، لا عن ثكنة. على أي حال، أمثال عباس سبق أن عبّروا عن حلمهم ذات يوم بـ “دمشق بلا ريف”، ولم يكن السلاح قد ظهر، فكيف بسواها!
لم يفت عباس النوري أن يرد حتى على المتضامنين معه، فيبدو أنه خصّهم بتلك العبارة الصالحة لمانشيت: “أنا لست بطلاً، لست صاحب مشروع سياسي”، عبارة يمكن ترجمتها إلى لازمة وحيد سيف في مسرحية “حضرة صاحب العمارة”: “أنا لأ، أنا لأ، أنا بلاش… أنا عباس، أنا بلاش” .
سنرى إذاً ما الذي تبقى لعباس النوري من شؤون يتحدث فيها عبر إطلالاته الكثيرة في مواقع التواصل الاجتماعي، لكن لا بد أن يخلو الرجل إلى نفسه، أن يدقق في ما جرى، كيف عبّر وكيف هوجم وأي رسائل تهديدات وصلته، وكيف اقتيد ليعتذر. هل بإمكانه أن يكذب على نفسه أيضاً؟!
أولويات إعلامية
مفهوم تماماً لماذا أصبح فيلم “أصحاب ولا أعز” حديث الساعة أخيراً، وكيف استطاع أن يوحّد الأمتين العربية والإسلامية في لحظة نادرة، لكن، وعلى أهمية الموضوع والفيلم (وهو متقن للغاية بالمناسبة)، ليس على الإعلام أن ينقاد وراء أخبار الفيلم ونجومه وردود أفعال المشاهدين التي لا تنتهي، خصوصاً أن لا نقاش جدياً وراء ذلك الاهتمام. كان الأولى أن يلتفت الإعلام إلى قضايا أكثر إلحاحاً. إلى هذا الحد أصبح الإعلام منقاداً غير قادر على تسليط الضوء على ما يستحق، على ما هو ملحّ!
ففي الوقت ذاته كان هنالك على الأقل ثلاثة موضوعات كان لها أن تكون في صدر الصفحات والمواقع الالكترونية: فيلم وثائقي إسرائيلي يكشف ويوثق مجزرة طنطورة (واكبته “القدس العربي” في عدد من المقالات)، التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بعد أسبوع واحد على إعلان دولة إسرائيل، في البلدة الساحلية الفلسطينية، الأمر الذي أحدث ضجة استثنائية على الجانب الإسرائيلي، خصوصاً أن الفيلم يكشف أيضاً كيف شُهّر بالباحث الإسرائيلي تيدي كاتس، الذي كان أول من كشف ووثق المجزرة ببحث أكاديمي، كيف جرى التضييق عليه حتى اضطر للتراجع والاعتذار عن بحثه. قضية تشكل حرجاً كبيراً لإسرائيل، كما أن تسليط الضوء على المجزرة أقل ما يمكن عمله لإنصاف ضحاياها، ولو بتأخير سبعين عاماً.
أما الموضوعان الآخران فيتعلقان باللاجئين السوريين، أولئك الذين باغتهم الثلج وحاصرهم داخل خيامهم، إلى جانب الآلاف الذين شردتهم معركة سجن غويران في مدينة الحسكة السورية، وبات الحدث حينها السجن والتفجيرات ونُسي المشردون.
ليتذكر الإعلام أن بإمكان صورة أحياناً أن تغيّر مجرى الأحداث، هذا ما حدث في التاريخ القريب عندما استطاعت صورة الطفل السوري إيلان الكردي الغريق على شاطئ تركي أن تفتح أبواب أوروبا لمئات الآلاف من اللاجئين.
*القدس العربي