كلما تكشَّفَ من شيرين عبد الوهاب شأن شخصي، يعكس هشاشةً وضعفاً، زاد تعلق الناس بها (هكذا يتوهم المرء على الأقل). أزمتها الأسرية، التي جعلتها لقمة سائغة لقيل وقال الإعلام، ثم دخولها إلى مصحّ نفسي للعلاج من الإدمان، وكذلك الطريقة التي «زُجّت» فيها في ذلك المصح، جعلتها محل إشفاق وتضامن. انقلاب درامي لا يتمناه المرء لمغنية بحنان صوتها. جاء التهاوي (لا نجد في فُصْحانا كلمة تعبر عن الكَرْفَتة) سريعاً، من مكانها الساطع، المحاط بالبهجة والرقص والأضواء الملونة، إلى حضيض المصحّ، من أرفع المنابر والاستديوهات إلى صوت وصورة مشوشيْن عبر السوشيال ميديا، مثل رسائل مسربة لمطلوبين دوليين.
لا يخلو الأمر من أصوات قليلة الرأفة تدين تورطها في الإدمان، مع أن حالها بات يصعب على الكافر. الحال الذي تأمل معه خروجها معافاة، صوتها، وعذوبتها الفائقة، وحياتها، من ورطة لا أحد محصن نهائياً من الوقوع بأمثالها.
آخر ظهور لشيرين جاء من مخيم عين الحلوة الفلسطيني في لبنان، أكثر المخيمات الفلسطينية بؤساً والتصاقاً بالحافة. مخاطرة لا يمكن أن تكون محسوبة، فلا هو زمن الفلسطينيين (على الأقل ليس زمن فلسطينيي مخيم عين الحلوة) حتى نقول إنها تحاول تلميع صورتها عبر الاحتماء بقضية مضمونة، كما أنها لم تذهب في الأساس إلى فلسطينيي المخيم، بل إلى بيت فضل شاكر، المغني اللبناني المحكوم والمطلوب والمطارد منذ سنوات (ها هي تتعرض الآن لمطالبات بمحاكمتها للقائها مجرماً دولياً وطريداً). يبدو أن شيرين أرادت أن تذهب إلى المخيم وفاء لصديق وشريك فني قديم، الآن، وعلى ما يبدو بعد أن وصلت إلى قاع الحياة، ولم تعد تهتم لأي كلام أو تأويل.
فجأة وجدنا أنفسنا أمام سهرة «رفاقية»، فيها المهمشون والغاضبون والحالمون وملوك الليل والسهر، وللمفارقة، هؤلاء بالذات راحوا يغنون: يا حبيبتي يا مصر. وبحبك يا لبنان.. هؤلاء المطرودون من كل مصر، ومن كل لبنان. لا تملك إلا أن تدمع، فهذه الـ «يا حبيبتي يا مصر» ليست تلك الخاصة بهاني شاكر، أو السيسي، وأمثالهما. إنها لحظة إنسانية خالصة، تشبه تلك التي قالت فيها شيرين مرة، عندما طالبها جمهورها بأغنية «ما شربتش من نيلها»: «ح يجيلكم بلهارسيا»، فقامت دنيا الإعلام الرسمي المصري عليها ولم تقعد.
تتصرف شيرين، في رحلتها اللبنانية، بحرية خالصة، كل ما يُخشى أن يقال قد قيل، كل ما يُخشى أن يحدث قد حدث، وهنا، في هذا القاع، قمة الحرية.
من أجلها أُنصتُ الآن إلى هذا المقطع من رواية ميلان كونديرا «المزحة»: «أسمع في روحي أقوال يسوع: «لكل يوم ما يكفي من المشقة». كان أعدائي يظنون أنني سوف أتفتتُ عذابا، وها أنا أحس بلا مبالاة غير متوقعة، يتخيلون أنني سأحس بحريتي محددة، وكانت تلك بالضبط البرهة التي اكتشفتُ فيها لنفسي الحرية الحقيقية. فهمت أن ليس للإنسان ما يخسره، وأن مكانه هو في كل مكان، في كل مكان ذهب إليه يسوع، وهو ما يعني: في كل مكان بين البشر».
عن «السباحتان» مرة أخرى
نقل عن الممثلة اللبنانية منال عيسى، بطلة فيلم «السباحتان» غضبتها على منتجي الفيلم الذين فرضوا اللغة الإنكليزية، لأنها، بحسبهم أجمل، كما فرضوا صورة نمطية للمرأة العربية، وأنهم أجحفوا في الأجور بحق الممثلين الكومبارس، الذين أدوا مشاهد عبور البحر، ومعظمهم من اللاجئين… الأهم هو حديثها عن منع ذكر كلمة «ثورة سورية»، أو الإشارة إلى تقاعس الغرب تجاه السوريين.
بالنسبة لتجنب الكلام عن ثورة، لم يكن الأمر في حاجة إلى شهادة أو إثبات، هذه القصدية في الفيلم في منتهى الوضوح، لكن لا بأس بشهادة منال عيسى كي تُلقى في وجه الذين اعتبروا مطالبتنا بتسمية الأشياء بأسمائها نوعا من بيان سياسي ليس مكانه السينما.
لا أحد يقبل أن يكون الفيلم، أو أي عمل إبداعي، بيانا سياسيا، لكن هذا لا يعني إطلاقا ألا تكون الحقيقة في خلفية الفيلم «حقيقية»، وأن يجري تقصد إغفالها فهو لا شك إساءة بالغة للسينما، إن كانت هذه تعنيهم، أولئك المنحازون إلى رفعة الفن وسموه، المترفعون عن السياسة وقرفها.
صحيح أن السينما لا يجب أن تكون بياناً سياسياً، لكن الصحيح أكثر أنها لا يجب أن تكون مساهمة في التزوير.
لغة إذا وقعت
إن ألقيتَ نظرة على صفحة علي بن تميم في ويكيبيديا لرأيت سيرة علمية للناقد والإعلامي والمستشار والمؤسس وعضو لجنة التحكيم الإماراتي لا تنتهي، سيرة تدب الرعب حتى في قلب طه حسين، عميد الأدب العربي، بذاته. لكن هذه السيرة ليس في إمكانها الصمود أمام أبسط قواعد اللغة، تلك التي لا تخفى حتى على غير المختصين، وليس فيها أي غموض أو حاجة لأي تأويل.
ينشغل الإعلام العربي، بشقيه الرسمي والبديل، بغلطة برنامج «أمير الشعراء»، وبالتحديد غلطة علي بن تميم مع المتسابق الليبي الشاعر عبد السلام أبو حجر الذي قال في أحد أبيات قصيدته: «يعجبني في الذكريات سخاؤها»، فما كان من عضو لجنة التحكيم الإماراتي إلا أن خَطأه معتبرا «السخاء» مفعولا به، وبالتالي عليه نصبها: سخاءها. (الكارثة أن عضو لجنة التحكيم السيدة المصرية أرادتها: سخائها!). حاول الشاب، الشاعر إقناعهم، وواضح أنه لم يرد أن يجادل طويلا، فسلم لهم ومضى. إنها فضيحة مصورة بحق. ليست مجرد غلطة لغوية، إنها تصيب نظام التعليم، ومنظومة الإعلام، وآليات التحكم والسيطرة. قد يخطر في البال أن الرجل، الدكتور علي بن تميم، سيخرج للاعتذار بعدها، ولن يقبل على نفسه أقل من الاستقالة. أن تعتذر المحطة التلفزيونية، صناع البرنامج. على الإطلاق، لا شيء من ذلك. خرج الرجل ليغرد بعد ذلك بأنه كان يختبر المتسابق ليس إلا. لا شيء أيضا، فمن أراد أن يختبر كان عليه أن يكشف نتيجة الاختبار في النهاية.
بإمكان علي بن تميم، وذبابه الإلكتروني، أن يذهب أبعد من ذلك أيضا، أن يتهم الأعداء والخصوم القطريين بتضخيم الأمر، كما لو أن تبيان غلطته اللغوية جزء من مؤامرة كونية! لا ندري إلى أين سيصل الرجل أيضا لتغطية ذلك الخطأ، الفادح، والذي يبدو الآن في غاية البساطة إزاء تَراكُبِ الافتراءات.
الأحرى أن تعتذر يا دكتور، هذا أضعف الإيمان.
*القدس العربي