يستعيد فيلم «خيمة 56» موضوعة لها ركنها الأثير في النكتة الشعبية، تلك التي تدور حول تحايل الأزواج على أبنائهم لاقتناص خلوة لممارسة الحب. مطاردة لا ينجو منها أحد، سواء كان من سكان البيوت الفخمة أم من سكان العشوائيات، إنما تتعقّد بالطبع كلما كثر عدد الأولاد، وكلما، خصوصاً، ضاق المكان. لذلك ربما سيشكّل مخيمٌ للاجئين السوريين مكاناً مثالياً لاحتضان «مطاردات» من هذا النوع، وتالياً ستشكّل المطاردات، واستحالة وصول الأزواج (والزوجات) إلى مكان حميم يستر رغباتهم، مقاربة مغايرة لفظاعة العيش في الخيام، فليس الجوع وحده، ليست العاصفة التي تهدد بالاقتلاع وحدها، ليس الخوف من قصف، وخلافه، ما يستحق النظر والمعالجة، على أهمية كل ذلك، فهنالك جوهر الحياة، أصلها، تلك الرغبة الصغيرة التي لولاها لما كان في الدنيا ديك، ولا كان فيها دجاجات (لم يفت الفيلم أن يذكّرنا ببداهة ذلك الحق في مشهد صياح ديك وحوله دجاجات: «ديك لا ينام لأن في الدنيا دجاجات»)، لكن الريح بالمرصاد، ليس المخيم وحده في الريح، بل معه تلك الرغبات الصغيرة.
لقد دمّر حريقٌ خيمة ابتكرتْها نساء المخيم بالإجماع وشكّلت ملاذاً سعيداً مؤقتاً في ظل مناخ عسير. اجتماع نسائي معاكس لاجتماع إغريقي قديم نعرفه في مسرحية أريستو فان «ليسستراتا»، وفيها تتفق النساء على الامتناع عن معاشرة أزواجهن كنوع من الضغط لإيقاف الحرب. أما هنا، في «خيمة 56»، فما بيد النساء حيلة سوى تهذيب الرغبات، اختراع ملاذ أكثر إنسانية، خيمة لا حظيرة بهائم، على الأقل.
الملاذ إذن، المكان، الخيمة، لا الجنس، هو الموضوع. الجنس والرغبات مجرد ذريعة للاحتجاج على مناخ العيش، وهي بالطبع طريقة غير مألوفة لدينا، حيث تناول عدد من الأعمال الفنية والأدبية الجوع والموت والاعتقال ووجع المنفى والبحث عن حبل غسيل.. وما من عيب لو كان الجنس نفسه موضوعاً.
تسرح امرأة في الفيلم (نوّارة يوسف) بالنظر إلى بضعة أطفال يصنعون بيتاً من كرتون، سرعان ما يتهدّم، فنعرف أن هذا هو الوجع. سيكون المشهد إشارة مبكرة لاحتراق الخيمة في آخر الفيلم. في لقطاته المتنوعة لا يغادر الفيلم تفاصيل الخيمة، بصورٍ مخلصة للواقع إلى حدّ بعيد (لعله صوّر في مخيم واقعي في لبنان).
لم يصمد حتى هذا الحلم الصغير الذي اجترحتْه نساء الخيام. لا يصمد سقف هنا ولا جدار، في مخيم؛ الشيء الوحيد الثابت هو العراء، الهشاشة، العاصفة، واللاجئون في مهبّها.
الأدباء العرب
لا ندري إن كان لدى الشعب الفلسطيني والمصري والسوداني واليمني والأردني واللبناني.. فكرة عن أن رؤساء اتحادات كتّابهم وأدبائهم زاروا دمشق في الأيام الأخيرة ضمن لقاء تحت عنوان «أدباء من أجل العروبة.. عاصمة الياسمين تحتضن الأدباء العرب»، وقالوا فيها إن دمشق «تُصَلِّبُ دمها في مواجهة غوائل الاستلاب والمحو والاستراتيجيات الحاكمة»، ثم توّجوا اللقاء بمقابلة السّفاح السوري بشار الأسد! لديكم فكرة؟
هل يعرف على الأقل أدباء وكتّاب هذه البلدان أن علاء الدين عبد الهادي، ومراد السوداني، وعبد الله علي صبري، وأكرم الزعبي، والياس زغيب، والفريق عمر قدور، كلهم كانوا هناك نيابة عنهم وناطقين باسمهم!
هل لدى الفلسطينيين، على سبيل المثال، إن كانوا في الشتات، ممن تبقى من مخيم اليرموك وسبينة وخان الشيح والحجر الأسود، أو في غزة المحاصرة والمنكوبة، الضفة الغربية، الناصرة، هل لديهم فكرة عن أديب يحمل اسم رشاد أبو شاور، وعن أنه تحدث باسمهم لـوكالة أنباء النظام السوري عندما قال، ككاتب وروائي فلسطيني: «إن سوريا هي في مقدمة من يدافع عن العرب وحقوقهم في كل المجالات، لذلك تدفع الثمن غالياً، ولأنها رمز للعروبة والمقاومة والنضال قررنا كأدباء ومفكرين أن نجتمع في دمشق»!
لقد رفع المجتمعون برقية إلى بشار الأسد جاء فيها: «يتوجه المجتمعون إلى سيادتكم بأرفع وأسمى آيات المودة والتقدير من دمشق التي كانت وستبقى قلب العروبة النابض ومعقل الضاد وحصنها الحصين وقد فتحت ذراعيها واستقبلتهم بياسمين حضارتها وبطولتها».
وأضاف المجتمعون وعبّروا وشكروا.. وختموا بالقول: «سلمتم سيادة الرئيس سيفاً يعربياً شامخاً يذود عن الأرض ويحمي الدماء ويعلي صرح الثقافة العربية».
على أي حال كانت تلك برقيات المتأدّبين، وقد كان للناس دائماً برقيات أخرى.
المسرح الحسينية
يسجل للمخرجة والممثلة اللبنانية نضال الأشقر، مديرة مسرح «المدينة» في شارع الحمرا البيروتي، أنها ستسجّل لأول مرة في دنيا العرب استقبال مسرح اعتدناه لتقديم عروض مسرحية وموسيقية وسينمائية، لمجلس عزاء عاشورائي، فرغم الانتصارات الإلهية الكثيرة لـ «حزب الله» لم يتجرأ على خلط الأمور على هذا النحو، كان هناك دائماً هذا الحرص على أن يبقى المسرح مسرحاً، والحسينية حسينية، إلا في عهد نضال الأشقر، وإذا كان ذلك لم يحدث من قبل، فربما لأن الحزب ومشايعيه لم يطرحوا الفكرة، إنما لا مشكلة عند «مسرح المدينة» ونضال الأشقر، فالأخيرة تدافع عن خيارها بالقول إن المكان متاح للجميع، لكن كلامها غير دقيق بالطبع، فهل كانت ستتعاطى مع فعالية كتائبية أو قواتية بالانفتاح نفسه.
لا نتحدث هنا عن أحقية أحد في المكان، إنما نتحدث فقط عن هذا المعنى الكبير للخبر، عندما يتحول مسرح المدينة، واسم المدينة له رمزيته، لم يجر اختياره عبثاً، إلى مجلس عزاء عاشورائي، هذا هو بالضبط خلاصة الاحتلال. وهذا هو بالضبط ما سيسجّل للأشقر.
*القدس العربي