فقط منذ أيام، وتعليقاً على سقوط الشابة السورية ندى داوود في حفرة صرف صحي في مدينة اللاذقية، وموتها المروّع، بث يوتيوبر سوري فيديو غاضباً، ترقّبَ بعده السوريون مصيراً أسوأ لصاحب الفيديو، الذي بدا أن الأمور بلغت عنده الزبى، وطافت. قال برهوم، وهذا اسم اليوتيوبر، مخاطباً عموم السوريين، من دون استثناء: «كلكم عايشين بأكبر ريغار (حفرة صرف صحي) مساحتُه 185 ألف كم مربع (أي مساحة سوريا)، هل هناك أوسخ من هذا الريغار؟ على المستوى الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، الكرامة. نعيش في أقذر وأكبر ريغار صرف صحي في العالم». ظل برهوم يكرر كلمة الجرذان، إلى حدّ تتخيل معه أنه لن يتمكن حتى من إكمال الفيديو، سوف يأخذه الذباب الأزرق، كعادته، وراء الشمس، إلى حيث لا يعرف له الجنّ مطرح، أو هكذا خيّل لكثيرين: «ملايين الجرذان.. أعطوني سورياً يعيش بكرامة، 23 مليون جرذ، جمهورية الجرذان. لا أحد يجرؤ على قول الحقيقة، أتحداكم، لأنكم تعيشون على الفتات، على القذارة».
لكن برهوم أطل أمس في فيديو جديد إثر تظاهرات في مدينة السويداء الجنوبية، هتف فيها المتظاهرون لإسقاط النظام، ومزقوا صور الأسد، كما أحرقوا مقر المحافظة. بدا الرجل غاضباً أكثر من أي وقت مضى، قال أسوأ كلام وشتائم بحق أهل المدينة: «ما يجري في السويداء ليس احتجاجاً، بل فعل إجرامي وحقير. أن تحرق مبنى المحافظة شو بتكون عملت! هو وضع عام في سوريا، كلنا نعيش نفس الوضع. شو يعني أن تحرق مبنى للدولة؟».
ولم يحد برهوم عن منطق النظام المتوحش، كما عرفناه تماماً في (ومنذ) العام 2011.. اتهمَ المدينة برمتها بكلام خطير، وصفهم بـ «المستوطنين»، وبالارتماء في حضن إسرائيل: «يبدو أن الحنين لإسرائيل أخذ منكم.. أَبَقَى فيكن (لم تعودوا تستطيعون)». و«أنتم لستم جبل العرب، أنتم جبل الجَرَب»، و»لا يمكن أن أصدق ما يجري في السويداء إلا بأوامر خارجية»، و«ضروري أذكرك بأن سبعين في المئة من جيش النخبة في إسرائيل هم من جبل العرب».
وكسائر الرماديين (وهو ليس رمادياً بالطبع، إنما يستعير منهم حجة) ومدّعي المعارضة لن ينسى برهوم العبارة إياها: «أنا مع مطالب الحق، ولكن ما هكذا تورد الإبل». طيّب، وكيف تورد الإبل؟ يجيب برهوم: «معروفة بكل دول العالم، عندما يريد مجتمع التعبير عن غضبه، بيطلع بيوقف بكل هدوء أمام المعنيين. وقْفوا قدام المحافظة ما حدا ماسككن، قولوا يا أخي عنّا أسئلة نريد أجوبة عليها، ليش البنزين هيك، ليش الغلاء.. وارجعوا على بيوتكم. هاي هي التظاهرة. هي رسالة بتقدمها، ما بتزبط إلا تمزّق صوراً لرموز وطنية؟»!
إذاً لا يعترض برهوم فقط على حرق وتكسير، فحتى تمزيق صورة بشار الأسد فعل عنيف بالنسبه له. ويتطلب أوامر خارجية. لكن من حقك أن تتظاهر مع ذلك! مقسوم لا تأكل، وصحيح لا تقسم، على ما يقال.
انظر إلينا، يقول برهوم، «اليوم كان لتر البنزين في جبلة بسعر كذا، ليش ما طلعنا حرقنا؟ لأننا وطنيون». ودعا الله في النهاية أن «تفوت داعش وتدعشكن دعش»، علماً أنه في مكان آخر يتهم المتظاهرين بأنهم «داعش».
يخطر في البال، للوهلة الأولى، أن برهوم قد تغيّر بين فيديوهين اثنين، فيديو الصرف الصحي الانتحاري، وفيديو احتجاجات السويداء. لكن هذا التناوب المستمر بين تعليقاته «الجريئة»، ومواقفه التي لا تتزحزح في الانتماء للنظام في اللحظات الحاسمة، يوحي بأن هذا الفيديو هو مجرد تتمة وحسب. فالرجل لم يكن بإمكانه أن يتهم السوريين بالجرذان، إلا لأن موقفه الأصيل من باقي السوريين، كموقفه من أهل السويداء، وبالتالي يحق له أن يزاود حتى على عتاة النظام.
لكن ماذا يهمنا في برهوم، وهو مجرد مواطن، كما يقدم نفسه؟ لا يهم أنه اليوتيوبر المتابَع بكثرة على الضفتين، فهؤلاء كثر، الأهم أنه لسان حال كثيرين من المؤيدين المعلنين والمتخفّين، مَنْطِقُهُ متوفر لدى عدد لا بأس به من مثقفين وسياسيين ورماديين، من محبي العبارة: «كلنا مع المطالب (وأحياناً: كلنا ضد النظام)، ولكن ما هكذا تورد الإبل».
فيلم «فرحة»
ضجة كبيرة حول فيلم «فرحة»، الذي يبث على المنصة العالمية نتفليكس. لا يتعلق الأمر بسوية الفيلم، أو مخرجه وأي من نجومه، كل ما هناك أن إسرائيل التي تعرف جيداّ قوة نتفليكس لا تريد لصورتها أن تتزعزع، والفيلم يقدم، لأكثر من عشرين مليون مشترك، حكاية من فظائع النكبة الفلسطينية. ومع أن الأرشيف الإسرائيلي، والمؤرخين الإسرائيليين أنفسهم يكشفون كل يوم عن مجزرة أو قصة تهجير وتنكيل موثقة إلا أنه يبقى للمنصة العالمية أثرها في الهستيريا الإسرائيلية ضد الفيلم.
في «فرحة» حكاية قوية، وعلى ما يبدو فهي منقولة من تجربة شخصية لامرأة فلسطينية حلّت لاجئة في سوريا إثر النكبة. وهي شاهدت بأم العين، من مكان اختبائها في بيت المونة، حيث أغلق عليها والدها، مجزرة يرتكبها الجنود الإسرائيليون بحق أسرة فلسطينية ورضيعها المولود للتو. ترى فرحة، وهذا هو اسم البطلة، خلاصة ما جرى في البلاد آنذاك من شقوق الباب الموصد عليها.
لكن عدا الحكاية، فإن الفيلم منفّذ على نحو سيء، لا نحسب أن بإمكانه الصمود على مسرح الأوسكار أو سواه. ليس علينا أن نكذب على أنفسنا، فالتصويت والتحشيد وجمع التواقيع هنا لا يفيد في ترقية الفيلم. الحوارات ضعيفة، والإنتاج كارثة، بإمكان أي متابع للسينما أن يكتشف أن «فرحة» منفذ بكلفة ضعيفة، نتحدث تحديداً عن مشاهد الحرب والتهجير، حتى تكاد تظن أن الأحداث تجري كلها على خشبة مسرح محددة ببضعة أمتار. لنتذكر فقط مسلسلاً تلفزيونياً مثل «التغريبة الفلسطينية»، حشود اللاجئين، قوة الممثلين، مستوى الحوار.
قد تداعب بعض المشاهد التزيينية غير الواقعية البعض، فيستسلم، حيث الديكور والملابس تقدم كما نراها في المتاحف والمعارض لا كما هي في الواقع، أو كما يتطلب أداء مشهد درامي. الملابس المزينة الملونة، ليرات الذهب، حتى المفتاح الضخم الذي بات رمزاً للعودة نراه بحجمه الضخم يخرج من صدر امرأة.
يفرد العمل قصصاً وإشارات عديدة في البداية، لكنها تختفي كلها، لا أثر لها في بقية الفيلم، وعلى ما يبدو لم تكن ضرورية من الأساس، كإصرار البنت التي تخرّجت للتو من «الكتّاب» على الالتحاق بالمدينة لمتابعة دراستها، وهذا لم يكن مجرد عبارة أو تلميحة، بل مشاهد بحالها، ستختفي عندما يبدأ التهجير. وكان يمكن أن يُكتفى بتلميحة، أو كلمة، لو كان المقصود القول إن النكبة حرفت مسارات حياتنا وأحلامنا وتطلعاتنا.
*القدس العربي