رائد وحش: مسلسل “سكويد غيم”.. سياسات العنف الرأسمالية

0

مناخٌ غريبٌ ذلك الذي يقوم عليه مسلسل “سكويد غيم” (Squid Game)، حين يجعل من ألعاب الطفولة في كوريا الجنوبية مسرحًا يتساقط فيه اللاعبون مضرجين بدمائهم، بدلًا من أن يمتلئ المكان بالضحك والصراخ الحماسيّ.

الغرابة امتيازٌ في هذا العمل، لكنها ليست السبب وراء تحقيقه حضورًا ساحقًا، إذ ثمة دائمًا أعمال كثيرة بمناخات جنونية لا يبالي بها أحد. لنتذكر “مرآة سوداء” (Black Mirror) ذلك المسلسل الغريب في بعض حلقاته إلى درجات صاعقة، لكنه مع ذلك ليس مدججًا بأرقام مشاهدة قياسية، وفي زمن قصير للغاية.

اقرأ/ي أيضًا: مسلسل “سكويد غيم”.. سيكولوجية البقاء بمصيدة الفقر في ألعاب الموت

إذا كان “مرآة سوداء” مثالًا عن العمق الفكري أيضًا فهل يمكننا القول إن الدافع وراء انتشار “سكويد غيم” هو سطحيته على الرغم من محاولات صنّاعه إعطاءه طابعًا فلسفيًا؟

لا تغيب عن متأملٍ لهذا العمل نزعته النيتشوية، التي نراها في فكرة التضحية بالكل من أجل الواحد، أو تكريس “السوبر إنسان”.

اعتمد المسلسل على الإغراق في الرمزية، حيث حاول أن يجعل من الأشكال الهندسية التي ظهرت على وجوه الحراس (دائرة، مربع، مثلث.. وهي رموز مأخوذة من عالم الألعاب الإلكترونية) أن تطبّق ضمن سير الأحداث. ويمكن قراءة هذه الأشكال بأكثر من طريقة، وهناك كثر ممن يشرحونها. لكن السؤال البسيط: هل تم توظيف هذه الرموز في بنية السرد؟ بالتأكيد لا، لأن المسلسل قابل للإكمال دونها. على هذا يمكن القول إن العمل يحاول الإيحاء بالعمق، ولا يقدم عمقًا قائمًا على مقولات صلبة، تعبّر عنها أحداث وحوارات ومشاهد وشخصيات.

وهنا سنصطدم بمشكلة أخرى، فكما هو الحال في أعمال الأكشن عمومًا حيث يتم التركيز على القصة وإيلاء اهتمام أقلّ بالشخصيات، لا نرى مسلسلنا يخرج عن هذا المبدأ، بل يُقدم نقصًا فادحًا في أحد أركانه الأساسية: الشخصية. والمشاهدون يجدون أنفسهم فعلًا أمام شخصيات مبهمة، أو أحادية (شر مطلق كما في حالة ديوك سو)، غير مكتوبة بشكلٍ وافٍ يجعلهم يشعرون بها، أو يفهمونها، ومن ثم يفهمون خياراتها التي تظل بعيدة غير قابلة للقبض رغم محاولات بعض الممثلين منحها شيئًا من الحياة.

هناك أيضًا مشكلة تخص البطل سيونغ جي-هون، فمنذ اللحظة الأولى التي يدخل فيها إلى منطقة اللعب نشعر أنه من سيفوز في النهاية، وهذا الكشف نوع من الرخص التجاري، الذي يريد أن يُشعر المشاهد أنه من اكتشف ذلك، لكن الأمر يحدث بسبب ضعف في الكتابة، وليس لأية مقاصد أخرى. بالإضافة إلى أن النهاية الأخلاقية التي تصيب سيونغ جي-هون ليست منطقية أبدًا، فما معنى أن رجلًا حصل على ثروة بعد مجازر وشارك في اللعبة وخادع ومارس أنانيته، يصبح روبن هود؟

في “بريكينغ باد” (Breaking Bad)، قام جيسي بإلقاء خمسة ملايين دولار في الشوارع، لأنه شعر أن المال الذي كسبه في صناعة المخدرات مغمّس بدماء الأطفال. يأتي ذلك المشهد نتيجة قصص متلاحقة تجعل من هذه الشخصية تتخذ موقفًا وتتصرف بهذه الشكل. لكن بطل سكويد غيم يعطي المال جزافًا، في أسلوب لا يتجاوز إعطاء درس أو عِظة.

اقرأ/ي أيضًا: مسلسل “سكويد غيم”.. إشارة حمراء على طريق الدراما

من ناحية أخرى، يتسلل إلى الجزيرة شرطي يبحث عن أخيه المفقود، وخلال بحثه نظن أن أخاه هو أحد اللاعبين الموتى، وأثناء ذلك يقوم هذا الشرطي بتوثيق كل ما يجري، لكنه يكتشف في النهاية أن أخاه هو القائد المشرف على الألعاب. وكي يرتاح صنّاع العمل من الخوض في مغامرة جديدة يكتفون بقتل الشرطي، بدلًا من أن يكون سببًا لإدخال الشرطة على الخط، وبالتالي فتح المجال أمام قصص جديدة، تفيد في نقد النظام.

يتحول قتل الأخ بدم بارد إلى إغلاق خط لا طائل منه. لماذا جاء هذا الشرطي؟ كي يموت؟ ألا يكفي أن يموت قرابة 400 شخص؟ أيضًا نرى بين اللاعبين طبيبًا يعمل مع بعض الحرّاس الذين يُشرفون على المكان في بيع أعضاء أجسام اللاعبين الموتى، مقابل حصوله على اللعبة المقبلة لكي يستعد لها ويحافظ على حياته. لماذا يجري ذلك البيع والمكان سريّ؟ لماذا لا يظهر المهربون الذين يعرفون بالمكان حين يتوقف إمداد الأعضاء بشكل مفاجئ؟ لا أحد يهتم! المسألة تنتهي بشكل اعتباطي. الجميع يُقتل ويُغلق هذا الخط بشكل مريح بالنسبة لصنّاع العمل مرة أخرى.

هناك مسألة مهمة باتت تطرحها مسلسلات زماننا بشكل مستمر، وهو تطويب الحثالات ثوّارًا ومتمردين. رأينا هذا في مسلسل “البروفيسور” (La Casa De Papel) حيث تحولت القصة فجأةً من سطو على بنك إلى ثورة على نظام، وصار اللصوص حرفيًّا ممثلين للمقاومة. كيف يكون اللص في هذا المسلسل، وبابلو إسكوبار زعيم مافيا المخدرات في “ناركوس” (Narcos)، والمقامر بحياته في “سكويد غيم”؛ كيف يكون هؤلاء ثوّراًا وهم أناس أنانيون يسعون إلى الإثراء الشخصي، حيث سيأخذون هذا المال لأنفسهم، ولن يضعونه في خدمة أي من الشعارات التي يتحدثون بها. والمفارقة التي تعرّي ذلك أنهم يريدون إنفاق هذا المال ضمن شروط النظام الذين يدعون الثورة عليه. في مقال يعود إلى عام 1993، وعلى خلفية أزمات تجار المخدرات المتفاقمة في أمريكا اللاتينية، كتب غابرييل غارسيا ماركيز مقالًا بيّن فيه السعي الحثيث للولايات المتحدة إلى جعل تجار المخدرات ورجال المقاومة في أمريكا اللاتينية يبدون في الإعلام وجهين لعملة واحدة. وهذا بالضبط ما تكمل فعله هذه المسلسلات.

بالعودة إلى بطل “سكويد غيم”، نراه لا يخرج عن هذا المسعى قيد أنملة، من حيث كونه شخصًا يريد التخلص من مشاكل سبّبها له لاعدل النظام، عبر امتلاك المال الكافي للعيش بشكل عادل في ظل هذا النظام نفسه.

ثمة أشياء غير منطقية كثيرة، لا ننس مثلًا أن سيونغ جي-هون أطل علينا بمشهد اعتراف في مركز الشرطة بعد مشاركته في اللعبة الأولى، فطُرد واتُهم بالجنون والخبل، ما معناه أن نصف الـ200 شخص من اللاعبين الباقين على قيد الحياة إذا بلّغوا الشرطة لن يُؤخذوا على محمل الجد، وبالتالي فإن انكشاف وجوههم لبعضهم البعض لا يشكّل أي خطر، بينما يوحي لنا السياق العام أن اكتشاف شخص واحد من الحراس يشكل تهديدًا، ولهذا يجب قتل الحارس الذي تكشف هويته بسرعة، كما حدث في مشهد المواجهة بين الطبيب وأحد الحراس. بهذه السذاجة يبررون لنا انكشاف اللاعبين واحتجاب الحرّاس.

في لحظة الخلاف بين اللاعبين الذين يريدون إنهاء الأمر والذين يريدون استمراره بعد اللعبة الأولى، والوصول إلى القيام بتصويت كنوع من الحل، يقوم الرجل العجوز، وهو صانع اللعبة الذي يريد استعادة طزاجة طفولته (وأية طزاجة تلك التي تأتي مع هذه المقتلة الكبرى؟)، بإنهاء اللعبة عبر تصويته بـ”لا”، حيث كان آخر من صوّت في لحظة تساوت فيها أصوات “لا” مع “نعم”. سنشاهد لاحقًا أنه لم يحدث أي جديد في الحياة عند المشاركين، وكأن العجوز يدرك ذلك، لتعود اللعبة مجددًا وكأنها بناء على اختيار واع من المشاركين. السؤال الذي يطرح نفسه: أليس من الأجدى أن يكون التصويت منذ البداية على إكمال اللعبة ما دام أنه لن يحدث أي شيء درامي يؤثر على هذا الخيار؟

ومن ناحية فلسفية، يبدو أنه فات صنّاع العمل أنه إذا كانت الحياة لعبة، وسلسلة الألعاب في المسلسل مثلها، فإنه من المستحيل طلب الخروج.

الانتقاد الكبير الذي واجهه المسلسل هو عنفه المفرط، لكننا نعرف أن العنف موجود على الدوام في أعظم الأفلام والمسلسلات، ولا مشكلة في العنف ما لم يكن مبتذلًا، أي عنف لأجل العنف، والمثال الأسطع على ذلك فيلم “آلام المسيح” (The Passion of the Christ) الذي بالغ بشدة في تصوير رحلة عذاب السيد المسيح يوم صلبه، رغم التماس الكثير من النقاد حينها للمبررات بسبب الرواية الدينية والتاريخية.

العنف موجود دومًا وله مقدماته ونتائجه، لكن العنف المجاني المفرط له علاقة بالتسويق اللاحق، وذلك ما سنراه في فيديوهات محاكية للمسلسل دون عنف، أو في تحول القصة إلى لعبة، أو في انتشار ملابس الممثلين، وهذه كلها تجلب المليارات، وبهذا لا ينتهي المسلسل مع نهاية الحلقات بل يستمر في المنتجات المشتقة منه، وهذه ما كان لتحصل على كل هذا الترويج لولا العنف المجاني.

*الترا صوت

share