رائد وحش: قرن من التلاعب بالعقول

0

كتاب مثل “المتلاعبون بالعقول” للكاتب الأمريكي هربرت أ. شيللر لا يصبح قديمًا، فالمنطق الذي سار عليه، والنظرة الأخلاقية التي تحلى بها، في تحليله لواقع الإعلام في أمريكا، وهي تنطبق على مختلف البلدان بطبيعة الحال؛ كشفت أن الصحف والمجلات والبرامج التلفزيونية حقول ألغام من الخداع والكذب تزرعها السلطات في الوعيين الفردي والعام.

الكتاب الذي صدر عربيًّا في سلسلة عالم المعرفة عام 1999، بترجمة عبد السلام رضوان سيظل عملًا راهنًا وضروريًّا، كونه ركّز على آليات عمل وسائل الإعلام والاتصال في السيطرة على عقول البشر وتثبيت صيغة سلبية محدّدة للإنسان، هي صيغة الكائن الاستهلاكي، ولأن المؤلف تمكّن من إيجاد الروابط الأساسية بين السياسات الإعلامية والقضايا السياسية والأمنية والاقتصادية.. بات الكتاب مقدمة في دراسة عقل الرأسمالية الباطني.

ولعل ما يسوقه الكتاب من أمثلة مخيفة عن تهافت الحرية في الإعلام، وتحولها إلى مجرد شعار فارغ من أي مضمون ينطبق حرفيًّا على إعلام زمننا، أي السوشال ميديا، فحيث يبدو لنا هذا العالم حرًّا تمامًا، وبلا سلطة مركزية، وبإمكان الأفراد العاديين المساهمة في صناعة محتواه؛ سيرينا واقع الحال أن الأمور ليست بتلك الصورة الوردية التي تدعيها، بل لعل عمليات غسل الأدمغة وصناعة الحقائق التي تناسب السلطة القائمة هنا أقوى مما كانت عليه في زمن الصحيفة أو الراديو أو التلفزيون، حيث تتاح لبرامج التعقب أن تعرف عن كل واحد فينا ما لا يعرفه هو عن نفسه، وذلك ليسهّل تقديم مواد تساعد في السيطرة عليهم وجعلهم يوافقون على الحقائق التي تريدها السلطة.

يكمن جوهر القهر في أجهزة الإعلام في التجزيء، من أجل منع مختلف أشكال التفاعل الاجتماعية، فكما نرى ذلك التجزيء في المجلات المتخصصة بالرياضة أو الموضة، نراه أيضًا في المقرّرات الجامعية، حيث يصر كل فرع من فروع الدراسة على نقائه الخاص، دون أي اعتبار للتفاعل بين فروع المعرفة، فالاقتصاد للاقتصاديين وعلم السياسة للسياسيين.. إلخ. يقول الكاتب: “على الرغم من أن العلمين لا ينفصلان في عالم الواقع، إلا أن العلاقة بينهما يتم التنصل منها أو تجاهلها أكاديميًا”. وأخطر ما يحدث نتيجة لهذا أنّ الحياة الفردية لا تعود جزءًا من كل اجتماعي، يترابط أفراده ويتفاعلون من أجل أن يُحدثوا تغييرًا لصالح الجميع، بل تنأى الفردية بنفسها في بحثها عن رفاهيتها ومتعها إلى درجة تشكل انفصالًا عن المجتمع، الأمر الذي يسهّل عملية السيطرة والضبط اللذين يديمان النظام القائم.

في زمن كتابة الكتاب كان الإعلام الأمريكي يوهم مواطنيه بتوفير حرية الاختيار، لكنّ “حرية الاختيار لا معنى لها دون التنوع”، فالتنوع الموجود زائف ما دام لا يختلف عن الأنواع المتماثلة من الصابون المعروضة بألوان مختلفة في السوبرماركت. فما الذي يفيده وجود سياسيين مصنفين على يسار ويمين وكلهم ما إن يصلوا إلى السلطة يعملون على بقاء النظام، الموجود لأجل أصحاب الامتيازات وحسب، ويحاربون كل بشائر التغيير.

بناء على هذه النظرة، خصوصًا في مجتمع تجاري، يصبح الهدف الأكبر للتلفزيون والإذاعة والأفلام السينمائية.. ليس إثارة الاهتمام بالحقائق، بل العكس تمامًا، أي تحجيم هذا الاهتمام وتخفيف حدّته. وهذه بالضبط ما يحدث في زمن السوشال ميديا، حيث تُوضع أمامنا حقيقة واحدة وعلينا التصديق بها، في مواد يجري تعزيز المصلحة الشخصية وحب الربح والكسب واستهداف النجاح الفردي والانشغال بالمظهر المثالي وحسب.

حين تحدّث شيللر عن احتمالات المستقبل، والمستقبل بالنسبة له هو زمننا، لمّح إلى احتمال تطور وسائل الاتصال، لكن ذلك لا يعني خيرًا بالضرورة، لأنه يضع احتمالًا أكبر لإخضاع المستقبل لتأثير التضليل والتوجيه مما كان في الزمن الذي عاشه، قال صاحبنا: “سوف يصبح واردًا تمامًا أن ننظر إلى المستقبل القريب بوصفه فترة من التنظيم الصارم والمحتوم على أوسع نطاق، سواء في المجالات المادية أو الثقافية”.

على كل ما يريد أن يسألنا، نحن أو من يأتون من بعدنا: من أنتم؟ ما أنتم؟ فلا إجابة تتوفر عندنا أفضل من أننا الحصيلة المثالية لقرن من التلاعب بالعقول.

*الترا صوت